موقف القرآن والسنة والعلماء من قواعد النحو / د. بشار باقر
لا يخفى علينا مدى أهمية الموقع الذي يشغله خليفة الله، فهو الدين كله والأصل الذي تنبثق منه العقائد والأحكام، لأن من عرف خليفة الله فقد عرف الله ورسله وملائكته واليوم الآخر، ومن جهله جهل الكل، وهذا ما يؤكده الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (( ثم أخبرك أن أصل الدين هو رجل، وذلك الرجل هو اليقين، وهو الإيمان، وهو إمام أهل زمانه، فمن عرفه عرف الله ودينه، ومن أنكره أنكر الله ودينه، ومن جهله جهل الله ودينه، ولا يعرف الله ودينه وشرائعه بغير ذلك الإمام، كذلك جرى بأن معرفة الرجال دين الله عز وجل )) مختصر بصائر الدرجات: 82.
وإذا كان الإيمان بخليفة الله بهذه الدرجة من الأهمية والخطورة، فلا بد من وجود قانون يقود الناس إلى معرفة هذا الرجل الإلهي وتميزه عن غيره من المدعين لهذا المنصب الجليل، وهذا القانون يسمى (قانون معرفة الحجة)، وهذا القانون الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لمعرفة خليفته في الأرض ذكرته الآيات المحكمة والروايات المتكاثرة، ويتكون من ثلاث فقرات وهي:
1- النص أو الوصية .. 2- العلم .. 3- الدعوة إلى حاكمية الله ..
واليوم نجد البعض يبالغون في تقديس قواعد النحو وتعظيم مكانتها فاتخذوا منها ميزاناً يوزن به كلام المعصوم، ودليلاً يتعرفون به على خليفة الله، وطريقاً يشخصون من خلالها صاحب الدعوة الإلهية، فجعلوها قانوناً يحاكم القرآن وكلام الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، فأنزلوها بذلك منزلة القوانين الصحيحة التي يجب على خليفة الله الالتزام بها، وعدوا الخروج عليها نقصاً في الكمال وطعناً في العصمة، وكأن المعصوم – بحسب نظرية هؤلاء – هو الممتنع من مخالفة قواعد النحو.
دور اللغة:
فاللغة يكمن دورها في إنشاء اتصال بين المتكلم والسامع كما يقول علم اللغة الحديث، والغاية منها نقل فكرة أو معنى وهو يتحقق باستعمال الفرد اللهجة المتعارفة بين أفراد بيئته، يقول الدكتور إبراهيم أنيس في تعريف اللغة إنها: (نظام عرفي لرموز صوتية يستغلها الناس في الاتصال بعضهم ببعض) اللغة بين القومية والعالمية: 11.
فالإنسان يكتسب لغته من اﻟﻤﺠتمع الذي يعيش فيه، والإمام – كغيره من أفراد بيئته – يكلم قومه باللغة الدارجة بينهم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إبراهيم: 4.
إذن، يكفي المعصوم أن يوصل الرسالة التي يحملها، ويبينها للناس، ولا يلزمه على الإطلاق أن يراعي ما تواضع عليه الناس من تسمية بعض الكلام بأنه الأرقى والأفصح وما إلى ذلك.
قواعد النحو وضعية والقرآن يخالفها:
ويكفي في إثبات أن قواعد النحو قواعد وضعية ولا يجوز محاكمة المعصوم بها، مخالفة آيات القرآن الكريم لهذه القواعد التي أوجب النحاة على الناس الالتزام بها، وحرموا الخروج عليها حتى جعلوها حاكماً على المعصومين وقانوناً لمعرفة خليفة الله، والآيات القرآنية التي خرجت على قواعد النحاة كثيرة نقتصر على ذكر البعض منها:
1- المعطوف يتبع المعطوف عليه في الإعراب رفعاً ونصباً وجراً وجزماً طبقاً لقاعدة النحاة، يقول المبرد في هذا الصدد: (فهذه الحروف – حروف العطف – تُدخل الثاني من الإعراب فيما دخل فيه الأول) المقتضب: 1/150.
ولكننا نجد في القرآن ما يخالف هذه القاعدة في موارد، منها:
في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة: 69.
فـ (الصابئون) معطوف على اسم (إن) وكان حقه النصب بحسب قواعد النحويين، ولكن القرآن خالف هذه القاعدة في سورة المائدة ورفعه.
2- تمييز الأعداد من أحد عشر إِلَى تِسْعَة وَتِسْعين مفرد مَنْصُوب، ولا يجوز جمعه عند جمهور النحاة (همع الهوامع: 2/ 347-348).
وفي القرآن ما يخالف هذه القاعدة كقوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) الأعراف: 160، فقد جاء معدود العدد (اثنتي عشرة) في الآية بصيغة الجمع (أسباطاً) بدلا من صيغة المفرد (سبطاً).
موقف أهل البيت (عليهم السلام) والعلماء من قواعد النحو:
ولا يختلف موقف أهل البيت (عليهم السلام) عن موقف القرآن تجاه قواعد النحو، فعن محمد بن مسلم قال: (قرأ أبو عبد الله (عليه السلام) ولقد نادينا نوحاً قلت: نوح ! ثم قلت: جعلت فداك لو نظرت في هذا أعني العربية، فقال: دعني من سهككم) مستدرك الوسائل: 4/279-280.
فالإمام الصادق (عليه السلام) يقرأ (نوحاً) بالنصب مع كونه فاعلاً وحقه الرفع، فيتنبه محمد بن مسلم لهذه المخالفة النحوية ويشير إليه بتعلم قواعد النحو، ولكن الإمام (عليه السلام) يجيبه جواباً يبين فيها قيمة هذه القواعد، فيشبهها بالسهك، والسهك هو الرائحة الكريهة والنتنة.
وهناك الكثير من الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب ومصادر السنة فيها مخالفات صريحة لقواعد النحو، منها:
(إنّ) من الأحرف المشبهة بالفعل، تنصب الأول وترفع الثاني عند النحاة. (شرح ابن عقيل: 1/ 346). وفي الرواية الآتية ورد اسم إن وهو(المصورون) مرفوعاً خلافاً لهذه القاعدة النحوية، ففي الرواية عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) السنن الكبرى: 8/461، الديباج على صحيح مسلم: 5/151، والصواب بحسب قاعدة النحاة أن يقول (المصورين).
وتذكر لنا المصادر شواهد كثيرة من الأشعار التي خالفت قواعد النحو، منها:
ما روى البغدادي أن عبد الله بن إسحاق الحضرمي اعترض على الفرزدق قوله:
وعضّ زمَان يَا ابْن مَرْوَان مَا بِهِ … من المَال إلاّ مسحتٌ أَو مجلّف
قَالَ : بِمَ رفعت أَو مجلف ؟
فَقَالَ: بِمَا يسوؤك وينوؤك علينا أَن نقُول وَعَلَيْكُم أَن تتأولوا. (خزانة الأدب: 5/145).
وكذلك خالف القراء السبعة والعشرة قواعد النحو:
ففي قوله تعالى: (وكذلك ننجي المؤمنين) قرأ عاصم نجى المؤمنين مشددة الجيم، قال الواحدي: (وجميع النحويين حكموا على هذه القراءة بالغلط، وأنها لحن) التفسير الوسيط للواحدي: 3/249.
وجدير بالذكر أن ما يسميه النحاة (خطأ) هو في الحقيقة لا يعدو كونه مخالفة لقواعد النحو، لأن قولنا (خطأ) يعنى أننا نرى قواعد النحو المعروفة قوانين صحيحة لا بد من التزامها، ولا ينبغي بحال مخالفتها.
حاول العلماء التوفيق بين هذه النصوص المخالفة وقواعد النحو فعمدوا إلى إيجاد تأويلات لها لا تخلو من الضعف من عدة جوانب، منها:
1- أن مجرد اللجوء إلى إيجاد التأويلات يدل على وجود مخالفة للقواعد النحوية يسعى النحاة من خلال هذا التأويل إلى إيجاد تبرير لهذه المخالفة ، وهذا ينقض اعتقادهم القائم على اعتبار أن قواعد النحو هي قواعد معصومة ولا يجوز لأحد مخالفتها.
2- أن التأويل باب واسع يسوغ لكل أحد أن يخالف القاعدة ثم يجد له مخرجاً بحمله على إحدى التوجيهات المذكورة، وبالتالي تفقد هذه القواعد قيمتها.
هل وضع علي (عليه السلام) النحو:
ويذكر الكثير من الباحثين أن علياً (عليه السلام) هو من وضع النحو، وهو رأي لا يصمد امام النقد العلمي من وجوه منها:
1- اضطراب الروايات الواردة بهذا الشأن وتضاربها تجعلها ساقطة عن الاعتبار؛ إذ يتعذر على المرء أن يخرج منها بفكرة واضحة عن النشأة الأولى لهذا العلم.
2- ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) العديد من الروايات التي تؤكد على عدم الاهتمام بعلم النحو، ومحال أن يتخذوا عليهم السلام موقفاً معارضاً لعلم أسسه الإمام علي عليه السلام، منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع) مستدرك الوسائل: 4/279.
3- يفترض في العلم الذي وضعه الإمام علي (عليه السلام) أن يتصف بالشمولية والتكامل، وما نراه في النحو هو المزيد من الخلافات والمآخذ والثغرات والتناقضات الناتجة عن الاستقراء الناقص، أضف إلى ذلك مخالفة القرآن وأهل البيت عليهم السلام لقواعده.
4- ويكفي في بطلان هذا الرأي عدم صدور الروايات الواردة بهذا الشأن عن أهل البيت (عليهم السلام)، وكل الروايات التي وردت بهذا المضمون جاء عن طريق غيرهم، ولو كان علي عليه السلام هو من وضع النحو لورد ذلك على لسان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أدرى بما فيه.
وأختم هذا البحث بجواب للإمام أحمد الحسن (عليه السلام) لسؤال وجه إليه في كتابه (الجواب المنير: ج3 سؤال: 236)، وهذا نصه:
(( س: سيدي أنكرت تدريس اللغة العربية والنحو، لكن ماذا عن ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في تعليمه النحو لأبي الأسود الدؤلي؟
ج: لم أنكر أو أمنع أحدا من دراسة اللغة العربية، وهناك أنصار هم أساتذة جامعيين ويدرسون اللغة العربية، بل قلت بأنها قواعد استقرائية تحتمل الخطأ في بعض الأحيان فلا يمكن اعتبارها قانونا يحاكم القران وكلام الانبياء والأوصياء وإلا فإنهم يقرون للنصارى نقضهم على القران بواسطة قواعد اللغة العربية الوضعية، وإن كنت مطلعا على اللغة العربية ستجد أن هناك أكثر من مدرسة نحوية ولكل مدرسة قواعدها التي تختلف عن الاخرى فأيها الحقيقة وأيها الوهم والباطل؟ )).
إلى ان يقول (عليه السلام): (( واعلم أن العرب كانوا يتكلمون بأكثر من لغة فصحى، منها لغة تعامل الأفعال الخمسة في حال النصب والجزم والرفع بخلاف ما عليه قواعد اللغة الموضوعة تماما، أما إن أمير المؤمنين عليه السلام أمر بكتابة قواعد اللغة العربية فهذا الكلام غير صحيح ولا علاقة له بالحقيقة، وإن كنتم تعتقدون أن هذا مدح لعلي عليه السلام فعلي في غنى عن هذا )).