نقد مفهوم الانتظار لدى الشيعة / الدكتور عبدالرزاق الديراوي

هناك الكثير من الافكار والمفاهيم التي زُرعت بيننا وكان لها أثر كبير في توجيه وعينا وحركتنا، ومن بين هذه الافكار الفكرة المغلوطة عن الغيبة والانتظار.

هناك تلازم أو ربط جوهري بين فهم الغيبة وفهم الانتظار، فالطريقة التي نفهم بها الغيبة ستنعكس على فهمنا لطبيعة الانتظار.

هم على العموم يتحدثون عن نوعين او صيغتين من الانتظار:

1- ما يسمونه بالانتظار السلبي.

2- ما يسمونه بالانتظار الإيجابي.

 

الانتظار الإيجابي والسلبي:

الانتظار السلبي – كما يصورونه – هو ترك الحبل على الغارب، والامتناع عن الانخراط في شؤون الحياة السياسية والاجتماعية. وباختصار هو الاكتفاء – كما يقولون – بالتفرج على حركة الحياة دون ان يكون لنا موقف لا سلباً ولا إيجاباً.

اما الانتظار الايجابي فهو – بحسبهم – الانخراط الكامل في الحياة الاجتماعية والسياسية بكل ما تعنيه الكلمة وبجميع ما تقتضيه من معان وطرق وأساليب. من قبيل انشاء دول واحزاب ومؤسسات وغيرها من وسائل العمل السياسي والاجتماعي.

لابد أن أنوه الى ان تقسيم الانتظار الى هذين القسمين جاء متأخراً، في خلال الخمسين سنة الاخيرة تقريباً ونتيجة لظروف تاريخية وسياسية معينة لا مجال للتفصيل فيها، ولكن على العموم كان هناك من يرغب في العمل السياسي، ويرى ان الابتعاد عن هذا العمل قد كلف الشيعة كثيرا، فكان ان حاول التنظير لشرعنة هذا العمل، وعندما واجهته الاحاديث – وهي كثيرة – التي تتحدث عن الانتظار، عبر عن موقف الرافضين  للعمل السياسي بالفهم السلبي للانتظار، ورأى ان هناك فهماً ايجابياً – كما يعبر هو – للانتظار مضمونه الانخراط في العمل السياسي، كما تقدم.

لا يهمني الخوض الآن في حقيقة هذين المصطلحين او الفهمين، هل لهما حقيقة؟ وهل هما دقيقان؟ ما يهمني هو الاشارة الى اصل عقدي يتعلق بالمسألة وعرض هذين الفهمين عليه. ولست أريد ان استوعب المسألة كاملة، في هذه العجالة، سأركز على مفصل مهم للغاية يمكن أن أعدّه عتبة أو مدخلاً أساسياً لابد أن يمر عليه من يحاول فهم احاديث الانتظار.

هل غيبة الإمام المهدي (ع) قدر لا دور للناس فيه:

لابد ان نتساءل هل غيبة الامام المهدي قدر لا دور لنا فيه؟ هل غاب الإمام المهدي (عليه السلام) دون ان يكون قد بدر منا ما يجعله يغيب؟؟ هذا السؤال مهم جداً ومفصلي.

الملاحظ على من تحدثوا عن مسألة الانتظار انهم في غالبيتهم العظمى، ان لم يكن جميعهم، يرون الغيبة قدراً إلهياً مفروضاً، لا علاقة ولا يد للناس فيه!

واذا كانت الغيبة قدراً لا ذنب للناس، وليسوا هم السبب فيه، فمن المنطقي ان يتجه البحث عن أسباب أخرى بعيداً عن السبب الحقيقي، ومن الطبيعي ان تتشكل نظريات تتناسب مع الاسباب المفترضة.

انا افترض ان السبب الحقيقي لغيبة الامام مرتبط كل الارتباط بالناس، فالامام غاب لأن الناس أهملوه أو اعرضوا عنه، وهذا برأيي ينبغي ان يكون واضحاً ولا يجادل فيه أحد، لأنه ببساطة ليست وظيفة الامام ان يغيب ويترك الامة للعنت، بل وظيفته قيادتها والأخذ بيدها ليتحقق لطف الله بالناس من خلال وجود القائد الرباني بينهم، وعليه فالامر الطبيعي هو ان يكون الامام بين الناس ليقودهم، واذا غاب عنهم فلا شك في ان السبب هو انهم متمردون لا يريدون القائد، وبالتالي يغيب عنهم ليشعروا بالحاجة الماسة له. وهو شعور سيتولد حتماً بفعل الظروف العصيبة التي ستمر بها الأمة بعيداً عن قائدها، وبعد ان تجرب كل الولائج او البدائل الممكنة وترى فشلها.

الغريب ان البعض ليس فقط لا يلتفت الى هذه الحقيقة البسيطة وانما يذهب بالاتجاه المعاكس فيفترض ان هناك منافع او فوائد في غيبة الامام! هناك كتاب كتبه بعض هؤلاء عنوانه (الغيبة الكبرى: بحث في الحكمة والفوائد)!

عندما تقرأ هذا الكتاب تقول مباشرة: ان هذا الرجل مصاب بقصر النظر فالفوائد التي يذكرها ناشئة عن اصل وجوده (عليه السلام) أو أنها فوائد يمكن ان تتضاعف كثيرا في حالة ظهوره.

اذا كان سبب الغيبة هو أن الناس غير مؤهلين لئن يكون الامام بينهم ويقودهم، فهم لا يعرفون ولا يقدرون مكانته الحقيقية ولا ما ينبغي ان يكون موقفهم تجاهه من جهة الطاعة والاتّباع فإن الانتظار يجب ان يتخذ صورة الارتقاء بمستوى الناس الايماني ليكونوا مؤهلين لوجود الإمام بينهم.

مفهوما “السلبي” و”الإيجابي” في ضوء التصور الصحيح لسبب الغيبة:

الآن لو تفحصّنا مفهومي الانتظار السلبي والايجابي اللذين يتحدثون عنهما على ضوء هذا التصور الذي عرضناه قبل قليل فسنجدهما سلبيين كليهما، وربما كان ما يسمونه انتظاراً سلبياً هو الانتظار الايجابي، وما يسمونه انتظاراً إيجابياً هو الانتظار السلبي.

فإذا كان المراد من الانتظار السلبي ترك واجبات ومقتضيات الشريعة وبالنتيجة اهمال التربية الايمانية للناس وتوجيه عنايتهم نحو قائدهم الغائب وشحذ استعداداتهم لاستقبالهم سيكون هذا الانتظار سلبياً حتماً وسيكون جزء من أسباب الغيبة وبالتأكيد لا يمكن ان نطلق على هذه الحالة مفهوم الانتظار، لان الانتظار موقف ناشئ عن تطلع لأمر ما والتطلع يدفع للعمل، أو على الاقل يمنع من العمل المضاد الذي ينقضه، واهمال الواجبات الدينية هو بالضد من موقف انتظار المصلح الديني بالتأكيد.

والحقيقة طالما كان هذا الفهم بالصورة التي عرضت لها لا يُعتبر انتظاراً بل يقف بالضد من الانتظار، فمن المستبعد ان يكون هو المقصود من مفهومهم للانتظار السلبي، ومن يقرأ كلماتهم يجدهم غالبا ما يقصدون بالانتظار السلبي المعنى المقابل لما يسمونه الانتظار الايجابي.

فالانتظار السلبي بالنسبة لهم هو ترك العمل السياسي وعدم الانخراط فيه، أي انه في الحقيقة لم يكن هناك وجود لفهمٍ معينٍ او منظّرٍ له للانتظار يموضعه في الخانة السلبية التي ذكروها، وانما كان هناك موقف سلبي من العمل السياسي وتأسيس الاحزاب وما الى ذلك رأى البعض أنه غير صحيح وحاول ان ينظّر لرأيه المتجه نحو الانخراط في العمل السياسي وتشكيل الاحزاب فوصف الاتجاه بالاول بالاتجاه السلبي.

بالنسبة للاتجاه الثاني الذي يُطلق عليه الانتظار الايجابي اذا كان المقصود منه – وهذا ما هو حاصل للأسف – أن يتم توجيه الناس لقيادات غير الامام المهدي (عليه السلام) تحت أي مسمى كان فإنه سيكون انتظاراً سلبياً للغاية إذ إنه يبعد الناس عن إمامهم ويشعرهم بالاستغناء عنه، طالما كانت هناك قيادات بديلة يلتف حولها الناس. وفي أقل الاحتمالات سيعيش الناس في ظل مثل هذا التصور للانتظار في أجواء بعيدة عن حرارة الانتظار حتى لو افترضنا انه سيكون هناك تثقيفاً او توجيهاً فكرياً للإمام (عليه السلام)، فمثل هذه الثقافة ستكون ثقافة ذهنية بلا روح، وبلا سند واقعي.

هل يجب ترك العمل السياسي:

قد تقولون: إذن هل يجب ان نترك العمل السياسي، أقول: المسألة المهمة التي ينبغي ان يتركز عليها اهتمامنا هي كيف يمكن ان نضع حداً لغيبة إمامنا، كيف نرتقي بمستوانا الايماني لنكون مؤهلين لظهوره. هذا هو المهم وهذا هو المنظور الذي يجب ان نراقب الافكار والسلوكات من خلاله، فإذا كانت هذه الصيغة او تلك من صيغ العمل السياسي تبعدنا عن الهدف فلابد من تركها، واذا كانت تقربنا منه فلابد من ركوبها.

وباختصار اذا كان الهدف الذي ذكرته واضحا في اذهاننا فلن تكون اشكالية فكرية طرفاها الانتظار الايجابي والسلبي كما يتم تصوريرها، فمثل هذه الاشكالية نتجت لان الهدف الحقيقي كان غائباً عن الاذهان وحل بدلاً منه هدف آخر هو هل ننخرط في صورة العمل السياسي المعاصرة ام لا؟ وعلى مذبح هذه المشكلة تمت جرجرة احاديث الانتظار لتكون قرباناً.

لماذا تحدثت الأحاديث عن “الغيبة” بعد ارتباطها بالناس:

هناك اسئلة يمكن ان تثار من قبيل: اذا كانت الغيبة قدراً مرتبطاً بالناس فلماذا تحدثت عنها الاحاديث قبل حصولها، أليس معنى هذا أن الغيبة قدر إلهي محتوم لا يد للناس فيه. الجواب: ان ذكر الاحاديث للغيبة لا يعني سوى ان الله عز وجل علم بعلمه المحيط بالزمان والمكان ان موقف الناس من إمامهم سيكون سلبياً ويضطرونه للغيبة.