السياسة والحكم والاتجاه الديني الصحيح / الشيخ أحمد الحلي

مقدمة تعريفية

السياسة: هي تنظيم حياة المجتمع عن طريق سنّ القوانين الملزمة لهم وتطبيقها والمحاسبة على مخالفتها. والنظم السياسية التي حكمت المجتمعات الإنسانية كثيرة ومختلفة بحسب المنظومة الفكرية التي انتهجتها تلك الحكومات ومن ثم تعددت المذاهب السياسية واختلفت.

يقولون: إن كل إنسان هو في الواقع مفكر سياسي لأن ساحته لا تخلو من شعورٍ ما تجاه تنظيمه السياسي الذي يراه صحيحاً وقد يكون قومياً أو إسلامياً … الخ.

هل يمكن للدين أن يقيم حكومة:  

واحدة من القضايا المهمة التي طالما شغلت الباحثين في الشأن العقائدي الإسلامي والفقهي الاستدلالي القديم والحديث هي مدى إمكانية قيام الدين الإلهي عموماً في إقامة حكومة إنسانية عادلة سواء أريد لها أن تحكم الإنسانية جمعاء أو تحكم المسلمين بالخصوص.

في هذا المجال، لا يمكننا تغافل قيام الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بتأسيس  دولته المباركة العادلة في المدينة المنورة وسعيه لنشر أسس دستوره الجديد الذي كان ينص على معظم القوانين التشريعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانت عبارة عن ثلاث وخمسين مادة تشريعية أوضحت الحقوق الفعلية التي يجب العمل بها على من كان داخلاً تحت هذه الدولة المباركة  حتى من غير المسلمين، وشملت الحقوق الخارجية أيضاً، وكانت مواد دستوره (الشامل لتعاليم الرسول ووصياه) تعطي لكل ذي حق حقه حتى فيما يتعلق بالحيوان أو النبات كما في وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسرايا الجيوش الغازية.

في هذا المقال المختصر سأشير إلى نقاط مهمة شغلت أذهان الكثير ممن يريد التعرف على دور السماء أو الأنبياء والأوصياء في قيادة الناس، يمكن إجمالها بما يلي:

  1. هل يجب على الأنبياء والأوصياء انطلاقا من كونهم خلفاء إلهيين فعليين منصبين من قبل السماء إقامة الدولة الشرعية التي تقيم العدل على هذه الأرض، أم أن دورهم ينحصر بالمنصب الديني التشريعي فقط وليس الحكم وإدارة البلاد من ضمن أدوراهم الفعلية ؟

هذا السؤال في الحقيقة مرتبط بمدى معرفتنا بدور (حقوق وواجبات) الأنبياء والأوصياء وكذلك طبيعة الوظيفة العامة المناطة بهم من قبل الله سبحانه (مستخلفهم)، والواضح هنا أنه سبحانه أسس قانون الجعل العام في قضية تنصيب آدم (عليه السلام) خليفة شرعي على بني البشر على أن تكون الوصاية من بعده مخصصة لأشخاص معنيين بشخوصهم لوجود الاستعداد العلمي والنفسي لديهم دون غيرهم، وهذا ما حدثنا به القرآن الكريم أيضاً في قصة داوود (عليه السلام)، وكذلك قصة طالوت الملك (عليه السلام) ويوسف (عليه السلام)، وجميعها توضح إمكانية قيام الأنبياء والأوصياء  بدورهم القيادي في إدارة البلاد والعباد من دون تقصير ولا ظلم.

  1. هل دستور السماء وتشريعاته الحياتية قاصرة عن رسم المنهاج الكامل والأفضل لبني البشر بما يشمل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية المتكاملة ؟

هذا التساؤل أثاره معظم المفكرين الغربيين والليبراليين وغيرهم متهمين السماء بقصورها في سد الفراغ الواقعي على مستوى حكم البشرية بحجة أن العالم في تطور سريع ومستمر وحداثة مدنية عالمية شكلت نقلة نوعية كبيرة ومذهلة ولا يمكن للدين بحال أن يجاريها ويرسم الآلية الصحيحة لها وخصوصاً فيما يخص الحرية الفردية أو حقوق المرأة وما شابه ذلك.

لكن الجواب ببساطة يتلخص في أنّ هناك فهماً خاطئاً لأصل القانون السماوي وتحاملاً مغرضاً من قبلهم على الدين، كما أن النظرة الأحادية والتجزيئية وفقدان الموضوعية خطأ منهجياً آخر ابتلت به جميع الانتقادات التي وجهت للدين.

أضف إليه: إن التقصير الأكبر في حقيقة الأمر يقع على عاتق المؤسسة الدينية ورجالاتها في عدم قيامهم بواجبهم الواقعي، وتجاهلهم التطبيق الصحيح لتعاليم الدين الحق على أنفسهم وعلى مؤسساتهم قبل تطبيقها على الناس، وهذا بالذات يمكن اعتباره أحد الأسباب المهمة التي أدت إلى فشل المؤسسة الدينية في أوربا المتمثلة بالكنيسة، إذ إن وقوف الكنيسة إلى جانب الحكومات الظالمة والمتسلطة على حساب الشعوب الفقيرة خلال القرون الوسطى في معظم دول أوربا، وكذلك موقفها الخاطئ من الحقائق العلمية التي اعلنها بعض العلماء الغربيين وهدرهم دماءهم، وغير ذلك من المواقف الخاطئة أدت بالنهاية إلى نفرة الشعوب الغربية ولفضها الحكومات والمؤسسات الدينية في نفس الوقت، وفي نهاية الأمر تم حجزها في بقعة جغرافية ضيقة وعاد الدين مقتصراً على الكنيسة ولا يعدو الأمر سوى مجموعة طقوس تقام أسبوعياً فقط، وكان ذلك منطلقاً أساسياً للنظر إلى السماء نظرة تقصير وقصور في سد حاجة المجتمع ومتطلباته الحياتية التي لا حصر لها مع تطور الزمان والمكان.

  1. هل يمكن لرجال المؤسسات الدينية أن يقيموا دولة العدل المنشودة ؟

هذا السؤال متوقف على الدليل الشرعي الذي تمسك به بعض فقهاء المسلمين، وهو أمر بطبيعة الحال يعتمد على مدى صلاحية الدليل في شمول غير المنصبين من قبل الله تعالى من الأنبياء والأوصياء في حكم البلاد، وهو ما يسمى بنظام “ولاية الفقيه”، وفي هذا المسألة بالذات وقع الاختلاف الكبير بين الفقهاء “الشيعة” انطلاقاً من الاختلاف في فهم روايات الباب، وكذلك عدم وقوع التجربة على أرض الواقع بنظرهم، وأن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) لم يقيموا مثل هذه الدولة المنشودة إما لعدم وقوع وقتها أو أن الظروف الفعلية لم تتحقق بسبب تقصير الناس، وهذا ما يشهد به التاريخ والسيرة الواقعية، وهو دليل لدى الأكثر من الفقهاء “الشيعة” في التقاعس بل وعدم التفكير في إيجاد الآلية المناسبة لإقامة دولة تنصر المظلومين وتقيم العدل.

  1. إنّ إبعاد الدين عن السياسة بنظر المجتمع الواعي أو المثقف دينياً – كما يقال – مرده إلى أن الدين – بنظرهم – عبارة عن الحلال والحرام والصلاة والصوم والحج وغيرها من الطقوس. وأما السياسة فهي عالم الظالمين والمتسلطين والمنتفعين، وهي عالم قائم على المجاملات والعلاقات المشبوهة، فاين هذا من ذاك ؟

طبعاً، ينبغي أن لا ننسى أن النظرة العامة والغالبة في أذهان هذه الطبقة من الناس هي أن الأنبياء والأوصياء ليس لديهم همّاً فيما يتصل بسياسة الناس وحكمهم، وهذا ربما هو السبب الرئيسي في تقاعس الناس عن نصرة الأنبياء والأوصياء ومساندتهم في إقامة الحكومة العادلة التي يريدها الخالق سبحانه، باعتبار أنها طريق يساهم في الوصول إلى التكامل الذي يريده الله تعالى من عباده.

  1. من الأدلة التي تؤكد على أن الأوصياء (عليهم السلام) كانوا يطلبون إقامة الحكومة العادلة كلما سنحت لهم الفرصة:

– من خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): ” اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك. فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك ” نهج البلاغة.

– من خطاب الإمام الحسين (عليه السلام) مع الحر الرياحي: ” أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد، وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلا كراهية لنا والجهل بحقنا، فكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم، انصرفت عنكم ” الإرشاد للمفيد.