قصة الجذب الفكري / الدكتور علاء السالم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الائمة والمهديين وسلم تسليماً.

قصة في صلب الموضوع:

قصة الحاجب المنصور “محمد بن أبي عامر اليمني” ملك الاندلس في القرن الرابع الهجري .. ثلاثة أصحاب كانوا يعملون حمّارين، يحملون البضائع للناس على الحمير. وفي ليلة من الليالي، تناولوا العشاء وجلسوا فقال أحدهم واسمه “محمد”: افترضا أني خليفة .. ماذا تتمنيان ؟ فقال أحدهم: هذا محال، وقال الآخر: أنت تصلح حمّاراً أما خليفة فلا .. قال محمد: هو مجرد فرض، ماذا تتمنى أيها الرجل؟ فقال: أريد حدائق غنّاء واسطبل من الخيل ومائة جارية. وقال الآخر: إذا أصبحت خليفة فاجعلني على حمار ووجّه وجهي إلى الوراء وامر منادياً يمشي معي في أزقة المدينة وينادي بالناس: هذا دجال محتال من يمشي معه أو يحدثه أودعته السجن.

قرر محمد أن يبيع الحمار وفعلاً باعه وعمل في سلك الشرطة .. وبعد فترة أُعجب به الرؤساء وترقى في عمله حتى أصبح رئيساً لقسم الشرطة في الدولة الأموية في الأندلس. وبعد موت الخليفة الأموي تولى الخلافة بعده ابنه هشام المؤيد بالله وكان صغيراً، فأجمعوا على أن يجعلوا عليه مجموعة من الأوصياء من غير بني أمية ووقع الاختيار على ثلاثة كان ابن أبي عامر أحدهم، وسرعان ما أصبح مقرباً إلى “صبح” أم الخليفة ونال ثقتها، ووشى بأحد صاحبيه عندها فأُزيل من الوصاية، وزوّج ابنه من بنت الآخر، وهكذا حتى أصبح هو الوصي الوحيد، واتخذ مجموعة من القرارات بطرق شتى صبت بالنهاية في صالح انتقال شئون الحكم إليه.  

وبعد ثلاثين سنة من بيع الحمار، والحاجب المنصور يعتلي العرش وحوله حاشيته تذكّر صاحبيه الحَّمارين، فأرسل أحد الجند للإتيان بهما، ولما وصلا إلى القصر ونظرا إليه قالا باستغراب: إنه صاحبنا محمد … قال الحاجب المنصور: أعرفتماني ؟ قالا: نعم، ولكن نخشى أنك لم تعرفنا ! قال: بل عرفتكما، ثم نظر إلى الحاشية وقص القصة، ثم التفت إلى أحدهما، وقال: ماذا تمنيت يا فلان ؟ قال الرجل: حدائق غنّاء واسطبل من الخيل ومائة جارية، قال الخليفة: لك ذلك ولك راتب مقطوع، وتدخل عليّ بغير حجاب. ثم التفت إلى الآخر وقال له: ماذا تمنيت ؟ قال الرجل: الصحبة يا أمير اعفني، قال: لا والله حتى تخبرهم، فذكر له ما تمنى. فقال ابن أبي عامر: افعلوا به ما تمنى حتى يعلم “أن الله على كل شيء قدير”.

هذه قصة يرويها المؤرخون .. ويعتبرها منظرو “الجذب الفكري” من المسلمين الذين يتغنون بأمجاد الأجداد ودول الفتوحات الأموية كأحد الشواهد القيمة لنظريتهم.

الجذب الفكري .. ماذا يعني:

تنص “فكرة الجذب الفكري” على أن مجريات حياتنا اليومية أو ما توصلنا إليه إلى الآن هو ناتج لأفكارنا في الماضي وأن أفكارنا الحالية هي التي تصنع مستقبلنا، بتعبير آخر: أن قوة أفكار المرء لها خاصية جذب كبيرة فكلما فكرت في أشياء أو مواقف سلبية اجتذبتها إليك وكلما فكرت أو تمنيت شيئاً جميلاً ورائعاً فإن قوة هذه الأفكار الصادرة من العقل البشري تجتذبه إليها، بل تجذب كل ما يتمناه المرء.

يقولون أيضاً: إنّ هذا الأمر ليس جديداً ولكنه قديم، فالمصريون واليونانيون القدماء كانوا يستخدمونه، ثم نسي لفترة طويلة حتى أواسط القرن العشرين حين بدأ علم “البرمجة اللغوية العصبية” يشقّ طريقه إلى العالم ويصبح علماً معترفاً به بدأ علماء هذا العلم بإحياء هذه الفكرة من جديد وهم يصرون على أن جميع من أنجزوا شيئاً مهماً في حياتهم أو بلغوا مستويات عالية من النجاح في الحياة قد طبقوا هذا القانون في حياتهم بشكل أو بآخر.

أما تطبيق فكرة الجذب لديهم فهو يتم من خلال خطوتين فقط (طلب وجواب):

  1. الطلب عن طريق أفكارنا.
  2. الجواب من الكون بتحقيق ما طلبت وتمنيت.

النتيجة كما يعتقدون: إننا لا نحتاج قوى خارقة، فالأفكار عبارة عن ترددات وذبذبات تخرج من العقل البشري وهي بمثابة الاشعة الكهرومغناطيسية، كل فكرة لها تردد ويمكن قياسها، فكل مرة نفكر نرسل تردداً ينطلق إلى الكون ويعود إلينا لكي يتحقق ما نريد، ومن ثمَّ فلنجعل أفكارنا ومشاعرنا إيجابية لكي نحصل على الحياة التي نتمناها !

طبعاً، يسبق الخطوتين ما يسموه بـ “تقنية التحرر النفسي” التي تقتضي أن يتحرر الإنسان من كل تصور وانطباع سلبي في قاموس أفكاره الناشئة مما حصل معه سابقاً من تجارب سيئة وفاشلة ومؤلمة.

والخلاصة بنظرهم: “إنّ الشيء يبقى ساكناً حتى تفكر فيه .. فيتحرك باتجاهك”.

يقول أحد منظري فكرة الجذب: (إن ما تتمناه سيأتيك ولو سألت من الذي أرسله لي فصاحب اللاهوت سيقول الرب والفيزيائي سيقول الطاقة وكل سيصرف القدر لما يؤمن به ونحن نقول لا يهم هذا أم ذاك ولا تشغل بالك في ذلك والمهم أنه ما تتمناه أتاك ……).

كيف تعامل الملحدون مع فكرة الجذب الفكري:

بطبيعة الحال، إنّ محتوى الفكرة يمكن تجييره لصالح نفي الإله لديهم، اذ يبدو فيه عدم الاحتياج إلى إله في تحقيق ما يتمناه الإنسان. وبذلك يلتقي عندهم قانون الجذب بشقيه (العام والفكري) في الوصول إلى نتيجة واحدة. فقانون الجذب الكوني العام أو “قانون الجاذبية” يغني عن الإله بنظرهم:

قال هوكنج في كتابه “التصميم العظيم / ص142”: “طالما أنه يوجد قانون كالجاذبية، فالكون يستطيع وسيقوم بخلق نفسه من لا شيء!  الخلق التلقائي هو سبب وجود شيء بدلاً من لا شيء.. ليس لزاماً أن نقحم إلهاً ليبدأ عمل الكون”.

وأما المسلمون .. فبعضهم راح ينظّر لمثل هذه الفكرة، وراح يفكر بطريقة وأخرى ليجمع بينها وبين الاعتقاد بالله ومشيئته وقضائه وقدره .. فقال بعضهم: إنه كالتفاؤل المأمورين به .. وقال آخرون: إن قانون الجذب الفكري كالدعاء.

الصحيح في المسألة:

أولاً: إنّ المنظرين لفكرة الجذب الفكري أنفسهم يعترفون أنها مجرد فكرة لم ترتق الى مستوى النظرية المثبت صحتها فضلاً عن أن تكون قانوناً، وما قيل في التأصيل له لا يعدو مجرد مقولات مشتتة لم تستطع اثبات صحة القانون المزعوم ولا بيان الأساس العلمي له.

إذن، قانون الجذب الفكري غير صحيح؛ لأنه غير مبرهن علمياً وكذلك دينياً.

ثانياً: الدليل على خلافه موجود، قال تعالى: “وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” التكوير: 29. ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): “عرفت الله بنقض العزائم وفسخ الهمم”.

ثالثاً: بالنسبة للموحدين أقول:

إن فكرة الجذب تعتمد على تمني الأمر الايجابي الملائم للإنسان بحسب ما يراه هو، ولكن:

1/ كم أمر يتمناه الإنسان (وإن كان مشروعاً دينياً) ويظن أنه خير له، ثم يظهر له أن فيه هلاكه وخسرانه سواء كان الأخروي أو الدنيوي. ولو أن كل فكرة تمناها الانسان برأيه تحققت بفعل الجذب لما زكى أحد غير الأولياء المصطفين، فسبحان الغفور الستار.

2/ إن الإنسان إذا علم هدفه الذي خلق من أجله ارتقى مستوى تفكيره، واذا علم أن أصله سماوي اتجهت بوصلته باتجاه الآخرة والمقر، وأخذ من الدنيا بمقدار ما يتعامل العاقل مع الممر الزائل، بلا حاجة الى قائمة الأمنيات المادية التي تأسر لب المنظرين لفكرة الجذب.

3/ كم هو الفرق كبير بين الفكرة أعلاه وبين أن لا يريد العبد إلا ما يريده ربه سبحانه له، بحيث لا تجول في باله فكرة ولا أمنية ولا اختيار غير ما يختاره الله له، فكل ما سواه سبحانه طلب للأنا وتجذير لها في النفوس.

تنبيه: لا يفهم من النقاط أعلاه الدعوة الى أن يبقي الانسان حاله السيء على ما هو عليه، وأن لا يرجو الخير ويتمنى تطبيق الحق والعدل والصدق في واقع الحياة، بل يرجو ويسعى ويثابر ويكدح لإنجاز ذلك لأنه مما أمر به سبحانه، فكما أمرنا بالإيمان به والتوكل عليه أمرنا أيضاً برجاء فضله وطلب توفيقه للسعي بإنجاز مراده وما يرضيه سبحانه.

– وبخصوص من شبه فكرة الجذب بالدعاء، أقول: اذا كان ما ينظرون له دعاء فلا إشكال فيه، ولكن بالنتيجة إذا كان الأمر يعود إلى الدعاء فتكون المسألة مجرد وضع مصطلح طويل للدعاء واستجابته.

– وأما ما يتوافق حدوثه في الواقع مع ما يخطر في ذهن الانسان فسببه اطلاع نفس الانسان على معلومات من لوح “المحو والإثبات” كما هو موضح في مباحث الاعتقاد الحق.

– أما “تفاءلوا بالخير…” فهو حسن ظن بالله والله يكون عند حسن ظن العبد به فيحقق له ما يتمناه من خير أخروي ودنيوي، ولا علاقة له بفكرة الجذب لا من قريب ولا من بعيد.

والحمد لله رب العالمين.