القراءة البيانية مقاربة دلالية بين القرآن والحديث / د. زكي الصبيحاوي

ولكي يتبين الفارق بين القراءة اللفظية التي هي نهج القراءة العامة، وبين القراءة البيانية التي هي نهج قراءة أهل البيت، حاول الباحث النظر إلى ما ورد في القرآن الكريم عن المُعَلَّم الأول في القرآن وهو آدم (عليه السلام)،
فمن خلال تلك الآيات يحاول الباحث الكشف عن معنى القراءة البيانية، ومن ثم يتبين الفارق بينها وبين القراءة اللفظية، إذ قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة/31)، هذه الآية الكريمة يكمن فيها سر التعلم، وما المقدم بالتعلم اللغوي؛ اللفظ أم المعنى، وما الكيفية التي يتم بها التعلم، وقبل الشروع بالإجابة على تلك الأسئلة لعل من النافع الإفادة من قول بعض المفسرين في تلك الآية:

 

أولاً: قول القرطبي:

ذكر القرطبي: ({وعلَّمَ آدم الأسماء كلها} علَّم معناه عرّف … قوله تعالى{الأسماء كلها} الأسماء العبارات، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، … وقد يراد به التسمية ذاتها؛ كقولك: أسد ثلاثة أحرف؛ ففي الأول يقال: الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد به المسمى … واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام؛ فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها، … وروى شيبان عن قتادة قال: علم آدم من السماء اسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمى كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه، … والمعنى علمه اسماء الأجناس وعرفه منافعها. … وقال ابن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم … قلت: القول الأول أصح لما ذكرنا ولما بينته) (تفسير القرطبي: 1/279-282)، ويتابع القرطبي قائلا: (واختلف المتأولون ايضا هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء، أو الأسماء دون الأشخاص، فقال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص لقوله تعالى: عرضهم. … وفي الحديث: إنه عرضهم أمثال الذر، وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء، … مجاهد: أصحاب السماء، فمن قال في السماء إنها التسميات فاستقام على قراءة اُبَيّ: عرضها. وتقول في قراءة من قرأ: عرضهم: إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص؛ فلذلك ساغ أن يقال للسماء: عرضهم، وقال في: هؤلاء المراد بالإشارة إلى أشخاص الأسماء، ولكن إن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسببٍ وذلك أسماؤها) (المصدر نفسه: 1/283)، ومحصلة ما عرضه القرطبي أن القول متردد بين أن يكون العرض لأسماء المسميات؛ أي معانيها، أو لشخوصها.

ثانيا: قول الفخر الرازي:

ناقش الرازي هذه الآية الكريمة بأربعة مسائل؛ ذكر في المسألة الأولى ما قيل عن اللغات: أهي توقيفية ترى أن الله خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني، أي بحسب ما يُفهم من قولهم أن التوقيف دال على توقيف كل لفظ على معنى خاص به، أو اصطلاحية، وفي المسألة الثانية يعرض قول القائلين أن معنى (وعلم آدم السماء كلها) أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه؛ إما من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الاشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهيتها؛ فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة، فثبت أن لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به. وذكر في المسألة الرابعة: مسألة طلبه سبحانه من الملائكة أن ينبئوه بأسماء هؤلاء دالة على جواز التكليف بما لا يطاق وهو ضعيف ـ بحسب قول الرازي ـ والمسألة الرابعة ذكر قول المعتزلة بوصف ما ظهر من آدم(عليه السلام) من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت. (ينظر التفسير الكبير: 2/191-193).

وخلاصة ما أورده الرازي أن اللغة اصطلاحية مع جواز القول بخلق العلم الضروري بأن واضعاً وضع الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل، والأسماء التي تعلمها آدم هي صفات الأشياء، وهي دليل العلم به يسبق العلم بالمدلول لكون الدليل اسمى في الحقيقة، وما فعله النحاة من تخصيص للاسم بألفاظ مخصوصة لا اعتبار به لأنه عرف حادث لا دليل عليه.

ثالثاً: قول السيد الطباطبائي:

يناقش السيد الطباطبائي (رحمه الله) آية تعليم الأسماء من جوانب عدة، فيقول في أحد تلك الجوانب: (قوله تعالى{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم}، مشعر بأن هذه الأسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء) (الميزان في تفسير القرآن: 1/1/118)، هنا السيد الطباطبائي يستشعر أن التعليم في الآية هو ليس تعليم اللغة؛ ألفاظ دالة على معانٍ، وهذه الالتفاتة منه تعد مهمة في بيان أن ما حصل في آية التعليم لا علاقة باللغة التي نعرفها؛ ألفاظ دالة على معانٍ، بل تعليم يناسب ذلك العالم الذي وقع فيه امتحان الملائكة، ومن المعلوم أن عالم الملائكة هو عالم الملكوت، وليس كعالمنا المادي الجسماني، ولذاك العالم طريقة تعليم غير التي في هذا العالم.

ويحتج لهذا الفهم الذي يقدمه السيد الطباطبائي (رحمه الله): أنه سيكون إنباء آدم (عليه السلام) إياهم بها بعد أن لم يعرفوها تعليم لهم بها فسيتساوى علمهم مع علم معلمهم وبذلك لا يكون له مزية عليهم بعد التعليم، فكيف تستمر حجيته عليهم بالعلم؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ أي حجة لآدم (عليه السلام) أن علمه الله تعالى علم اللغة ثم يباهي به ويتم حجته على ملائكة مكرمين بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم؟ (ينظر المصدر نفسه).

ويبين السيد الطباطبائي؛ أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب، والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، وإنما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم. (ينظر المصدر نفسه)، هذه الفكرة التي يقدمها السيد الطباطبائي؛ إذا فُهمت انعدام الواسطة تماما فهذا يحتاج إلى دليل، لأن كلام السيد الطباطبائي ليس حجة، وإنما يحتج له، فما بالك إذا كانت الحجة عليه وليس له؟! فوصف الملائكة بأنها تتلقى المقاصد من غير واسطة مردود بجعل آدم(عليه السلام) واسطة بين الملائكة والمقاصد التي علمها الله سبحانه له، واحتج بذلك على الملائكة، وإذا فُهمت انعدام واسطة اللغة (اللفظ والمعنى) فهذا لا جدال فيه لأن الوعاء المعرفي لآدم (عليه السلام) هو أوسع من الوعاء المعرفي للملائكة.

ومن يتدبر قولهم {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} لا يرى أنه ينفي وجود الواسطة بتعليم المقاصد تماما، بل على العكس فهو إشارة خفية لوجود الواسطة، بدليل حديث النبي(صلى الله عليه وآله) الذي يقول فيه: (… لأن أول ما خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده، ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبحنا؛ لتعلم الملائكة إنا خلق مخلوقون … الخ الحديث) (علل الشرائع: 1/10/ح1)، فمحل الشاهد في هذا الحديث الطويل هو قول النبي(صلى الله عليه وآله) في أكثر من مرة (لتعلم الملائكة) الدال على أن هناك واسطة تتعلم بها الملائكة المقاصد، ولا تتلقاها ـ كما يرى السيد الطباطبائي ـ من غير واسطة، نعم لا يختلف أحد مع السيد الطباطبائي أن الكلام بصورة؛ اللفظ والمعنى التي نعرفها في عالمنا المادي الجسماني، هي غيرها في عالم الملكوت، لأن العالَمَيْنِ مختلفان، ولكل عالم صورة كلامية تختلف عن العالم الآخر، ولا يعني اختلاف الصورة أن هناك كمالا فوق كمال التكلم.

ما افاده الباحث من رأي السيد الطباطبائي هو أن آية التعليم لا علاقة لها بتعليم اللغة وبذلك يتبين انتقاض فكرة التوقيف في نشأة اللغة المستندة إلى الفهم الخاطئ لآية التعليم، وذلك لأن ذاك الامتحان حصل في غير هذا العالم، ولكن الوصف لذلك الامتحان جاء بلغة هذا العالم، وبسبب الالتباس الذي يقع فيه الفهم لدى المتلقي في هذا العالم لما حصل في ذاك العالم جعل الله سبحانه واسطة للتعليم والبيان وهم الرسل والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ليعرفوا الناس حقيقة ما وقع في ذلك الامتحان.

هذه الحقيقة التي يتعلمها المتلقون في هذا العالم هي بما يناسب إدراكهم، ليكون هذا التعليم سبباً في ارتقائهم إلى درجات المعرفة العالية، بوصف أن المعرفة هي السبب الذي من أجله خلق الله سبحانه الخلق، قال تعالى{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات/56)،  ذكر السلمي (ت 412هـ) في تفسيره عن: (محمد بن حامد: إلا ليعرفون ثم ليعبدون على بساط المعرفة ليتبرؤوا من الرياء والسمعة) (حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي: 2/278، ينظر معالم التنزيل للبغوي: 7/380، الكشف والبيان للثعلبي: 9/120). وكذلك روى (القشيري عن رويم وقد سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو ؟ فقال : المعرفة ، لقوله جل ذكره: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال ابن عباس : إلا ليعرفون . قلت : وذلك لا يتم إلا بمعرفة علم التوحيد) (صحيح شرح العقيدة الطحاوية؛ حسن بن علي السقاف: 48) .

رابعاً: قول أهل البيت (عليهم السلام):

ورد عن آل محمد (عليهم السلام) بياناً لآية التعليم يكشف عن علمهم (عليهم السلام)، وإحاطتهم بالأمر بجوانبه كلها، فعندما يكون البيان متعلقاً بهذا العالم المادي الجسماني، يبينون لمن يسألهم ذلك ؛ إذ ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه ـ عندما سئل عن آية التعليم: ما الأسماء التي علمها الله سبحانه لآدم (عليه السلام) ـ قال: (الأرضين والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه. (تفسير العياشي: 1/51/ح11)، وهذا البيان يوضحه أول الآية الكريمة: {وعلَّم آدم الأسماء كلها}، وتأتي المرتبة التالية بعد التعليم هي مرحلة العرض على الملائكة: {ثُمَّ عرضهم على الملائكة}، وهنا بحسب ظاهر الآية المعروض ليس الأسماء، ولو كانت الأسماء لكان (عرضها) لأن المعروف لغويا أن الضمير العائد على جمع الكثرة (الأسماء) لا يكون دالا على التذكير بل يكون دالا على التأنيث (ينظر المذكر والمؤنث لأبي بكر بن الأنباري: 2/284)، ولكن لما تحول الضمير العائد إلى ضمير دال على جمع الذكور، فهنا يعني الذي تم عرضه ليست الأسماء (الكثرة)، وإنما منبع الأسماء وأصلها وهو القلة، هذا من جانب.

من جانب آخر؛ إن مسألة عرض الأسماء في ذاك العالم هي قطعاً لا علاقة لها باللفظ والمعنى، بل لها علاقة بدلالة الاسم تحديداً، فالاسم دال على الصفة أي هو صفة لموصوف (ينظر معاني الأخبار للشيخ الصدوق: 2)، والموصوف في ذاك العالم روح أو أرواح، استناداً إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله الأنصاري عندما سأله عن أول شيء خلقه الله سبحانه؟ أجابه النبي(صلى الله عليه وآله): (نور نبيك يا جابر ومنه خلق كل خير) (ينظر بحار الأنوار للعلامة المجلسي: 25/21)، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله في حديث طويل: (… لأن أول ما خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده … الخ الحديث) (علل الشرائع: 1/10/ح1)، فالمعروض كان أرواحهم (عليهم السلام) التي هي في ذاك العالم أشباح نورانية، وهي أصل الأسماء، لأن من نورهم (عليهم السلام) خلق الله سبحانه كل خير، وكل مخلوقات الله سبحانه هي خير من عنده عز وجل.

وما يثبت أن المعروض على الملائكة في المرحلة التالية لتعليم آدم (عليه السلام) هو أنوارهم أو أرواحهم (عليهم السلام)، ما ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام)، إذ قال (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى عَلَّمَ آدم (عليه السلام) أسماء حجج الله كلها، ثم عرضهم ـ وهم أرواح ـ على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (عليه السلام)، قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، قال الله تبارك وتعالى{يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم} (البقرة/33)، وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثمَّ غَيَّبَهُم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما تكتمون}) (كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 1/25-26، ينظر الميزان في تفسير القرآن: 1/1/121-122).

بعد بيان العترة الطاهرة لآية التعليم وعرض ما قاله المفسرون آنفاً فيها تتوضح جملة من الأمور التي يحسبها الباحث مهمة في ميدان البحث اللغوي في مسألة نشأة اللغة والاستشهاد لها بآية التعليم، من تلك الأمور على سبيل المثال لا الحصر:

1-     إن الآية لا علاقة لها بمسألة تعليم اللغة ونشأتها، ولا يمكن الاستدلال بها على أن اللغة توقيفية من الله سبحانه، وهذا ما اشار إليه السيد الطباطبائي (رحمه الله)، أن الآية أجنبية عن هذا السياق.

2-     ما ذكره الرازي عن اصطلاحية اللغة لا يخلو من الصواب، ولكن ينبغي أن نفهم أن اللغة كمنظومة معرفية ليست من البشر، بل هي فطرة أودعها الله سبحانه فيه، فهي من الله سبحانه بوصفها فطرة، ومن البشر بجانبها الاستعمالي، أو بحسب تعبير المناطقة؛ هي بالقوة من الله سبحانه، وبالفعل من البشر، ومن هنا يُلحظ أن البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم لا يختلفون بالمعاني المعرفية الإنسانية، بل على العكس تماما، فلا يختلف البشر على القيم المعرفية، ولكنهم يختلفون بطرق التعبير عنها بألسنتهم.

3-     آية التعليم تحدثت عن مرحلتين؛ الأولى: تعليم آدم الأسماء كلها، والمرحلة التالية: (ثم عرضهم على الملائكة)، وهنا تبين أن ما يمكن للملائكة إدراكه هو نور تلك الأرواح، وبحسب ما عبر عنه السيد الطباطبائي: (أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب، والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم) (الميزان في تفسير القرآن: 1/1/118)، وهنا المقصود أن الملائكة لا تحتاج إلى الألفاظ والمعاني اللغوية لكي تدرك المقاصد، بل يكفيها حضور الأرواح لتحصل لها المعرفة، بينما وعاء آدم (عليه السلام) المعرفي هو أوسع من ذلك؛ فهو قادر على إدراك ما تدركه الملائكة وزيادة، وهذه الزيادة تلك المنظومة المعرفية اللغوية التي تمكنه من الإدراك والتعبير، فيكون قادراً على التلقي بالصورة التي ترضي الحق الذي استخلفه سبحانه، وكذلك قادر على أداء ما تعلمه وأدركه إلى من يُبعث فيهم ليكون دليلهم إلى معرفة الله سبحانه. 

وبحسب بيان أهل البيت (عليهم السلام) لآية التعليم من جهة العالم المادي يكشف أهل البيت (عليهم السلام) عن فطرية اللغة؛ اللفظ والمعنى، ودلالتهما على صورة الحقيقة أو الوجود النوراني للحقيقة، أما الحقيقة بنفسها فالخلق عاجزون عن إدراكها، وكل ما يمكنهم استعمال الإشارة إليها بواسطة الضمير (هو) الدال على الغائب، ومعلوم أن الغائب هو كل ما لا يتيسر للبشر إدراكه حسياً أو نفسياً، وبما أن الحقيقة بنفسها غيب لا يمكن إدراكه ومعرفته فهي الكنز المخفي، ولكي تتحقق المعرفة لابد أن تتجلى الحقيقة بأثر نوراني يمكن أن يوصف، وفي هذه المرتبة أمكن أن يكون الإدراك للأثر ممكنا من خلال تجليه بمنظومة معرفية لغوية؛ لفظ (دال ظاهر)، ومعنى (مدلول باطن)، وما بينهما (دليل ناطق) ينقل المتلقي من الدال الظاهر إلى المدلول الباطن الذي هو ثمرة المنظومة اللغوية.

ولذا فانعدام الدليل الناطق سيجعل هناك انقطاعاً بين اللفظ والمعنى، ويجعل من اللفظ (الدال الظاهر) وجوداً معطلاً لا فائدة منه، وهذا ما أوضحه احتجاج أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على الناس في حرب صفين لما رفع أهل الشام المصاحف، وانقسم جيش علي (عليه السلام) بين من يطالب بالكف عن القتال، ومن يطالب بمواصلة القتال وأن رفع المصاحف لا يعدو أن يكون خدعة لمَّا أيقن جيش الشام بالهزيمة، فماذا قال علي (عليه السلام)؟ قال: (أنا القرآن الناطق) (ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 1/82)، فمن دون وجود المعلم الناطق المنصب من صاحب النص لتعليم النص المنزل، سيكون الأمر متاح للمتبرعين كي يسدوا هذا الفراغ الحاصل بين اللفظ (الدال الظاهر)، والمعنى (المدلول الباطن)، ووجود هذه الأطراف الثلاثة في المنظومة اللغوية المعرفية أمر قانوني ثابت في كل اللغات على اختلافها، ولكن ما يدعو للاستغراب هو الإصرار على تغييب الحد الوسط الرابط بين الدال والمدلول وهو الدليل الناطق، وقصر الأمر على اللفظ والمعنى، مع أن الثابت فطرياً أن لا وجود للفظ أو معنى من دون وجود ناطق يترجم المعنى الباطن إلى لفظ ظاهر!!

قال ابن جني(ت392هـ) معرفاً الإعراب: (هو الإبانة عن المعنى باللفظ) (الخصائص: 1/36) ويشرع في ضرب الأمثلة التي تسند هذا التعريف، ولكنه يورد إشكال من يشكل بأن هناك جمل لا تستبين فيها حال اللفظ مرفوعا أو منصوباً فكيف يستبين المعنى عند ذاك؟ وكذلك بتلك الحال لا يستطيع اللفظ بنفسه الإبانة عن المعنى، فيجيب ابن جني قائلا: (اذا اتفق ما هذه سبيله، مما يخفى في اللفظ حاله، ألزم الكلام من تقديم الفاعل، وتأخير المفعول، ما يقوم مقام بيان الإعراب، فإن كانت هناك دلالة أخرى من قبل المعنى وقع التصرف فيه بالتقديم والتأخير) (المصدر نفسه) ووفقاً لما ذكره ابن جني فإن الطائفة الأولى من الإبانة باللفظ كأنها حاصلة لاتفاق الحال بين السامع والمتكلم، أما إذا لم تحصل الإبانة باللفظ مثل حال الطائفة الثانية فيصير الأمر إلى إلزامات افتراضية وليست واقعية، لأن الكلام من فعل المتكلم، وليس من فعل القاعدة النحوية أو من وحيها.

وهنا يريد الباحث أن يجد حلا لذلك المعضل يخرج بالإعراب من تعريفه الظاهر المشكل، إلى تعريف آخر يكون أبين في الدلالة وما تعطيه من يقين، وهو أن يكون تعريف الإعراب هكذا: هو الإبانة عن المعنى بظله وهو المتكلم، أما الألفاظ فوظيفتها الدلالة على ظل المعنى والإبانة عن ظل المعنى، فتكون العلاقة الدلالية ليست بين المعنى واللفظ مباشرة، بل بينهما بتوسط ظل المعنى وهو المتكلم، وهو الآصرة التي تقرن اللفظ بالمعنى، فيكون اللفظ دالاً على ظل المعنى؛ أي معرفا بالمتكلم، والمتكلم دالاً على المعنى، ولذلك قد يعبر عن معنى ما بأكثر من لفظ ويريد من خلال ذلك توضيح المعنى المقصود للمتلقي السامع أو القارئ، وتكون بذلك قراءة المتكلم هي إبانة لظل المعنى، وتكون وظيفة اللفظ الدلالة على المتكلم، إذ ورد عن علي (عليه السلام) أنه قال: (إن ربي وهب لي قلباً عقولا ولساناً ناطقاً) (الخصائص العلوية على سائر البرية لأبي الفتح النطنزي: 67/ح67) فالقلب العقول هو وعاء العلم، واللسان الناطق هو المظهر للعلم، فيكون الكلام أي الألفاظ المنطوقة معرفة بالمتكلم ودالة عليه، والمتكلم هو من يبين كلامه لأنه هو ظل المعنى وصورته، أو الشاخص الذي تظهر عليه صورة المعنى.

ولذلك فإن آية تعليم آدم (عليه السلام) للملائكة مستندة إلى هذه الفكرة ـ التي يحسبها الباحث جديدة ـ ومن خلال تلك الفكرة يستبين للدارس أهمية القارئ الإمام في القراءة القرآنية، وأيضا يتبين للباحث والدارس أن تعدد القراءات ـ أي تعدد الألفاظ ـ لم يمس المعنى بقدر ما كان معرفاً بالقارئين ومستوياتهم العلمية، فكل الألفاظ التي قرؤوا بها لم تخرج من سمت المعنى، ولكن الفارق هو أن هناك ألفاظاً اقرب للتعبير عن المعنى، وقربها هذا جاء بسبب القارئ الإمام العارف ومقدار معرفته بالمعاني التي شكل هو ظلها عندما جعل من نفسه إماما للقراءة، أو بالمقابل من جعله الله سبحانه إماما للقراءة.