الأثر الدلالي للفظة “رب” في تقدير المحذوف في القرآن الكريم – الدكتور بشار باقر
مقدمة..
تزخر النصوص العربية بواحد من أهم الأساليب النحوية التي حظيت باهتمام العلماء قديماً وحديثاً وهو أسلوب الحذف، فعكفوا على دراسته وإبراز الجوانب الخفية منه، وتناولوا مفهومه ودواعيه وشروطه وأسراره المعنوية، وكان للقرآن الكريم النصيب الأوفر من هذه الدراسات كونه يمثل الأنموذج اللغوي الأرقى في شتى الأساليب.
وهذه الدراسة تسلط الضوء على واحد من أهم تلك الموارد المرتبطة بموضوع عقدي يتعلق بالتوحيد، وهو قوله تعالى: “وجاء ربك والملك صفاً صفاً” سورة الفجر: 22، ارتأينا فيها الكشف عن الأثر الذي تتركه دلالة لفظة (رب) في تعدد الوجوه التفسيرية لقوله تعالى: “وجاء ربك والملك صفاً صفاً”. وكان للقول بوجود محذوف في الآية النصيب الأوفر من تلك الوجوه؛ فسعت هذه الدراسة إلى تحديد دلالة اللفظة بالمعطيات اللغوية والنصوص الشرعية وبيان أن ضوابط الحذف لا تتوافر في هذا الموضع من القرآن الكريم؛ لاشتماله على العديد من المخالفات النحوية التي تلقي بظلالها على اللغة والعقيدة، فتعرّض البحث للرأي الصحيح بالطريقة التي تضمن الخروج من هذه المخالفات والإشكالات. وقد هَدَفْنا فيها إلى تقديم دلالة للآية من دون الخروج عن الأصل النحوي المسماة بأصالة عدم التقدير، مع الحفاظ على الثوابت العقدية والنحوية واللغوية بالكشف عن الدلالة الحقيقة للفظة (الرب) في الآية.
وقد اقتضت طبيعة البحث تقسيمه على مبحثين تسبقهما مقدمة ومدخل، وتقفوهما خاتمة.
خصصنا المقدمة للحديث عن ظاهرة الحذف وبعض قواعدها الأساسية عند النحاة، وتناولنا في المبحث الأول الآيةَ المذكورة بدراسة نحوية بينّا فيها عدم انطباق قواعد الحذف عند النحاة على هذا المورد من القرآن. واعتنى المبحث الثاني بدراسة دواعي الحذف والتقدير في الآية المتمثلة بدلالة لفظة (رب)، وعرض الآراء التي قيلت فيها مع بيان الوجه الذي يضمن الخروج من الإشكالات المترتبة على القول بالحذف فيها، ثم ختمنا البحث بخاتمة ذكرنا فيها أهم نتائجه.
مدخل..
اهتم علماء العربية بأسلوب الحذف وأولوه عناية خاصة بوصفه فناً من فنون القول ومسلكاً دقيقاً للتعبير عن المعنى، فقعّدوا له القواعد، وحددوا له الضوابط، وبسطوا فيه القول، وذكروا بأنه إسقاط بعض الكلام أو كله مع وجود دليل يدل عليه ([1]). وهو أسلوب من أساليب التأويل النحوي للنصوص المخالفة لقواعد التصرف الإعرابي؛ لكونه بخلاف الأصل، فلو دار الأمر بين الحذف وعدمه تعين عدم الحذف؛ لكونه الأصل ([2])، وذكروا للحذف أسباباً منها:
- كثرة الاستعمال ([3]).
- الحذف لسعة الكلام والإيجاز ([4]).
- ومن دواعي الحذف عند العرب الإطالة في الكلام ([5]).
- وقد يقع الحذف لأجل التخفيف كما هو الحال في الترخيم ([6]).
- أو للإسراع في تنبيه المخاطب في بابي الإغراء والتحذير؛ لأنَّ الانشغال بذكر المحذوف يؤدي إلى ضياع المهم ([7]).
وذكر ابن هاشم الأنصاري (ت: 761 هـ) في كتابه مغني اللبيب ضوابط للحذف تمثلت في ثمانية شروط ([8])، يمكن إجمالها فيما يأتي:
- وجود دليل على المحذوف إما حالي أو لفظي.
- ألّا يكون المحذوف كالجزء.
- ألّا يؤدي الحذف إلى نقض الغرض وهو الاختصار.
- ألّا يؤدي الحذف إلى اختصار المختصر.
- ألّا يكون المحذوف عاملاً ضعيفاً.
- ألّا يكون المحذوف عوضاً عن شيء.
- أَلا يُؤَدِّي الحذف إِلَى تهيئة الْعَامِل للْعَمَل وقطعه عَنهُ.
- أَلا يُؤَدِّي الحذف إلى إِعْمَال الْعَامِل الضَّعِيف مَعَ إِمْكَان الْعَامِل الْقوي.
والملاحظ أن جلّ الشروط التي اشترطها ابن هشام قد غلب عليها التكلف والصنعة ومراعاة القواعد اللغوية على حين أن العرب كانت تتكلم بهذا الأسلوب عن سليقة وطبع قبل أن تكون هناك قواعد منطقية. أما النحاة الأوائل فلم يكونوا يعرفون كل هذه الشروط التي ذكرها ابن هشام ولا نجد ذكراً لها في مصنفاتهم، كانوا يرون أن أهم شروط الحذف هو وجود دليل يدل على المحذوف، فلا يؤدي الحذف إلى الغموض والإبهام في المعنى، فالعرب لا يحذفون شيئاً إلا إذا كان معلوماً عند المخاطبين؛ لأن الحذف مع ترك الدليل عليه يؤدي إلى اللبس والغموض وربما يدفع بالسامع إلى محاولة اقتحام سبل الغيب في سبيل معرفته([9]).
فوضوح المعنى وأمن اللبس أهم الشروط التي يجب مراعاتها في الظواهر اللغوية المختلفة ومنها الحذف، فما يكون سبباً في الغموض في الكلام والإبهام على السامع لا يحذفه العرب؛ لأن الأصل عدم الحذف ولا يمكن العدول عن هذا الأصل في موارد الشبهة.
والحذف مظهر من مظاهر شجاعة العربية بحسب تعبير ابن جني، فقد أفرد في كتابه الخصائص باباً سماه (باب في شجاعة العربية)، وتحدث فيه عن الحذف أولاً وذكر أقسامه عند العرب ([10]). والسر في تعبيره هذا هو تشبيهه بالرجل الشجاع الذي يصول ويجول وينتقل في كل مكان في الحروب، يريد بذلك القول بأن كلام العرب يحمل تلك الجرأة لخوض غمار المعنى، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام بدرجة عالية من الشجاعة والجرأة والإقدام ليؤدي بذلك أغراضاً متنوعة ومعاني متباينة.
وتحدث العلماء عن هذه الظاهرة في القرآن الكريم، وقدروا وجودها في موارد كثيرة، مجاراة للعرب في هذا النمط من الأسلوب الخطابي، لكننا لا نسلّم بصحة كل الموارد التي قدروا فيها محذوفاً؛ لافتقاد بعضها للشروط الضرورية والضوابط اللازم توافرها في الحذف.
المبحث الأول / الحذف والتقدير في الآية
اختلف العلماء والمفسرون في تفسير الآية “وجاء ربك والملك صفاً صفاً”، وبيان المعنى المراد منها وتعددت أقوالهم، فذكروا وجوهاً تركت بعضها أثراً على العقيدة والتوحيد، فذهب بعضهم إلى جواز المجيء عليه سبحانه وتعالى بحمل الآية على ظاهرها، وبذلك تكون هذه الآية من المحكمات عند أصحاب هذا الرأي، وهذا قول الوهابية المجسمة، سبحانه وتعالى عما يقولون ([11]).
ويرى علماء آخرون أن هذه الآية من الآيات المتشابهات، فهي في ظاهرها تسند فعلاً حادثاً إلى الله سبحانه وتعالى، وهو تعالى منزه عن هذه الأفعال والأوصاف؛ لذا ينبغي تأويل الآية بما يناسب ساحة قدسه تعالى، فتعددت التوجيهات والتأويلات للآية، فقال بعضهم: إن (ربك) هنا بمعنى (أمر ربك)، فالفعل هنا أسند إليه سبحانه وتعالى ليس لكونه المباشر له بنفسه، بل لكون الأمر صدر منه، أي إن الإسناد هنا من المجاز العقلي نحو قولك (قتل الأمير فلاناً) فيسند القتل إليه لأمره به ([12]).
وهذا التأويل يتسبب في بعض المحاذير من قبيل أن تخصيص اسم (الرب) به سبحانه وتعالى يجعل إطلاقه على غيره أمراً غير ممكن ولو على سبيل المجاز، وإذا كان ذلك جائزاً مع (أمر الله) فما المانع من إطلاقه على (عبد الله) ورسوله وحبيبه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على أحد عباده المكرمين على سبيل المثال ! وهذا ما يقودنا بالتالي إلى الجزم بكون الاسم مشتركاً بينه وبين غيره، بحسب ما سنثبته في هذا البحث.
وأحد هذه التوجيهات هو التوجيه القائل بوجود مقدر محذوف في الآية، فيقدرون وجود كلمة محذوفة قبل لفظ (ربك) هي كلمة (أمر) أي أن نسبة الإتيان في الحقيقة هي لأمر الله، ثم حذف المضاف (الأمر) وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه ([13]).
والالتجاء إلى أسلوب الحذف والتقدير في هذا المورد لا يرفع التشابه عن الآية؛ لاشتماله على جملة من المخالفات النحوية المؤدية إلى المحاذير العقدية التي من شأنها أن تزيد الآية غموضاً وإبهاماً، وهكذا ينتفي الغرض الذي من أجله وجدت هذه التوجيهات النحوية.
فدعوى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإعرابه بإعرابه يترتب عليها تعطيل وظيفة الفاعل في الجملة العربية وإبطال كونه مسنداً إليه، ويبدو هذا واضحاً في اعتبار لفظ (رب) في الآية فاعلاً لفظاً دون المعنى لكونه مضافاً إلى الفاعل الحقيقي (أمر) معنىً وتقديراً.
في حين أن جميع كتب إعراب القرآن تعرب كلمة (رب) في الآية فاعلاً وينطبق عليه تعريف الفاعل دون إشارة إلى كونه مضافاً إليه في الأصل ([14])، ولو كان هناك أثر للحذف والتقدير لكان الأولى أن يقال مثلاً في إعراب الآية: (رب: اسم مرفوع لفظاً مجرور محلاً على أنه مضاف إليه، والفاعل محذوف تقديره (أمرُ)، أو نظير ذلك مما يدل على وجود مضاف محذوف في الأصل كتعبيرهم عن المفعول به الذي ينوب عن الفاعل المحذوف بأنه (نائب فاعل) وليس فاعلاً.
ويشترط النحاة لحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ألّا يؤدي هذا الحذف إلى الإبهام والغموض ([15])، ومثل هذا الشرط كان العرب يراعونه في خطاباتهم اليومية، ولا يحذفون في مواضع الشبهة والريب، فكيف يصدر من الحكيم المطلق أن يحذف في مورد عقائدي متشابه كهذا من شأنه أن يسبب انحرافاً في عقيدة التوحيد !
ولم يذكر لنا أصحاب هذا الرأي الوجه الذي اقتضى حذف المضاف في هذه الآية، وعدوا لأجله عدم ذكره أفصح من ذكره وأزيد فائدة، على الرغم من أنه ترتب عليه خلاف كبير بين العلماء والمفسرين وتسبب في شبهة عقائدية تتعلق بالتوحيد بحسب ما مر، يقول الجرجاني (ت: 471 هـ): (هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن) ([16]).
فمثل هذا الأسلوب لا يصار إليه إلّا لغاية كبيرة لا يمكن تحقيقها بغير الحذف، لكونه خلاف الأصل، وهو مظهر من مظاهر التأويل، فالأصل هو الذكر وعدم الحذف وفاقاً للقاعدة النحوية: (عدم التقدير أولى من التقدير)، وهذا ما يدفع العلماء والمفسرين إلى ترجيح بعض الوجوه الخالية من التقدير ([17]).
ولذا نرى تأكيد النحاة لهذه القاعدة بمحاولتهم التقليل من الحذف مهما أمكن واختيار الوجه المتضمن لأقل التقديرات من بين الوجوه المتعددة للنص كما فعل ابن هشام في كتابه مغني اللبيب ([18])، وأصالة عدم الحذف كانت المعيار الذي اعتمده بعض النحاة في الترجيح بين الآراء النحوية في المسائل الخلافية ([19]) وهي مسائل فرعية، فما بالك بمسألة مهمة ترتبط بالتوحيد كالتي تتحدث عنها الآية !
المبحث الثاني / دواعي الحذف والتقدير في الآية:
كل الخلافات التي وقعت حول تفسير الآية وما ترتب عليها من انحرافات في عقيدة التوحيد عند بعض الفرق أو تقدير كلمة محذوفة وغيرها من الوجوه تعود في الحقيقة إلى سبب أساس مرتبط بدلالة لفظ (الرب) وكونه اسماً خاصاً به سبحانه وتعالى أو مشتركاً بينه وبين خلقه في الاستعمال القرآني، ولا سيما أنها نسبت إليه فعلاً حادثاً يجب تنزيه الله سبحانه وتعالى عنه وهو (المجيء)؛ لذا لم يجد العلماء والمفسرون بُداً من اللجوء إلى إيجاد التأويلات والتخريجات التي من شأنها الإبقاء على أصالة نفي مثل هذه الصفات عنه تعالى، فذكروا كل الوجوه المحتملة التي اشتملت على المزيد من المخالفات سوى الوجه الذي توصلنا إليه على الرغم من توافقه مع المعطيات اللغوية والشرعية.
فمن منظور اللغة نجد للفظة (الرب) في المعاجم اللغوية دلالات منها: (المالكِ والسَّيِّدِ والمُدَبِّر والمُرَبِّي والقَيِّمِ والمُنْعِمِ)، ودلالات أخرى أرجعها العلماء إلى ثلاثة أصول:
الأول: بمعنى مالك الشيء وصاحبه كقولهم: (رب الدار) أي مالكها وصاحبها([20]).
الثاني: بمعنى المصلح للشيء والمربي له، يقال: (فلان يربي الصبي)، أي يدير شؤونه ويقوم بتربيته وإصلاح أمره ([21]).
والأصل الثالث بمعنى السيد المطاع، ومنه: (ربيت القوم) أي توليت قيادتهم وقمت بأمورهم ([22]).
أما المعاني الأخرى للمفردة فتندرج تحت هذه الأصول الثلاثة التي أقرها العلماء والمفسرون.
قال الطبري (ت: 311 هـ) بعد ذكره لهذه الوجوه الثلاثة: إن معنى الرب قد يتصرف في وجوه أخرى، لكنها تعود في النهاية إلى أحد هذه الوجوه ([23]).
وذكر الراغب الأصفهاني (ت: 502 ه) أن هذه المفردة تدل في الأصل على معنى واحد وهو التربية، وهو إنشاء الشيء بالتدريج وصولاً إلى حد التمام ([24]).
وهذا الذي ذكره هو أنسب الوجوه وأقربها إلى الواقع الدلالي للفظة، فالمعاني الأخر للكلمة مجازية وضعت جنباً إلى جنب مع المعنى الأصلي، ويبدو ذلك واضحاً بمراجعة المعاني التي ذكرت للمفردة المتضمنة معنى القيام بتدبير الشيء وإدارته والتصرف فيه.
- فالمالك للشيء والصاحب له: يدير شؤون المملوك ويتصرف فيه.
- والسيد المطاع: يقوم بتدبير شؤون الرعية والمرؤوسين.
- والمصلح للشيء والمدبر له: يقوم بتربية الآخرين وإصلاحهم.
بعد الحديث عن الدلالة الأصلية لكلمة (رب) بقي أن نعرف مصاديق المعنى المذكور من المنظور الشرعي، بالرجوع إلى الثقلين (الكتاب والعترة) يتبين لنا جواز إطلاق اللفظ على غيره سبحانه وتعالى من الأنبياء والأوصياء والملائكة الموكلين بتدبير شؤون الخلق، وهناك العشرات من النصوص القرآنية والروائية التي تصرح بقيام بعض خلقه المقربين منه بتدبير شؤون الموجودات بتسخير منه سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: (فالمدبرات أمراً) ([25]) أي الملائكة الموكلين بتدبير أمور العالم والكون كالإحياء والإماتة والحفظ وغيرها من المهام الموكلة إليهم، وعدت بعض الروايات المدبرات أربعة وهم: جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت (عليهم السلام) ([26]).
وثمة آيات أخرى كثيرة ترمي إلى الغرض نفسه نذكر منها:
– (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ([27]).
– (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) ([28]).
– (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) ([29]).
وجدير بالذكر أن ربوبيته سبحانه وتعالى مطلقة غير مقيدة بشيء؛ فهو الغني المطلق وتدبيره لشؤون الكون إنما هو بالأصالة، أما ربوبية عباده الموكلين بتدبير شؤون الخلق فمقيدة ومرتبطة به، فما عداه من الخلق يفتقرون إليه، وتدبيرهم لأمور هذا الكون يكون بالتبعية أي قائماً بحوله وقوته.
والمفهوم الذي ذكرناه للفظة (رب) لا يتعارض مع القاعدة التي أطلقها العلماء حول استعمال الكلمة، تنص القاعدة على أن المفردة تكون مختصة بالله سبحانه وتعالى إذا وردت مطلقة غير مضافة، وإذا وردت مقيدة بالإضافة فتطلق على الله وعلى المخلوق، والقرينة هي التي تحدد أحدهما.
ففي قوله تعالى على لسان يوسف (عليه السلام): (إنه ربي أحسن مثواي) ([30]) ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضمير يعود على عزيز مصر والمعنى أن زوجك أكرمني وأحسن تربيتي فلا أخونه، فأطلق عليه اسم (الرب)؛ لأنه كان عبداً مملوكاً له يقوم بتربيته وتدبير شؤونه في الظاهر ([31]).
ومثل ذلك يقال في الآيات الأخرى كقوله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها)([32])، وقد فسر الإمام الصادق (عليه السلام) رب الأرض في الآية بإمام الأرض ([33]). وهو دليل ساطع يكشف لنا بوضوح أن استعمال هذا اللفظ لغيره مقيداً لا محذور فيه بحسب النصوص التي ذكرناها.
وبهذا تحل كل الإشكاليات المتعلقة بالآية بحسب هذا الفهم الذي قدمناه بوصفه إشكالية حمل اللفظ على ظاهره (أي على الربوبية المطلقة) وما يترتب عليه من نسبة الأفعال الحادثة إليه سبحانه وتعالى، وإشكالية تأويل لفظ (الرب) بـ (أمره) وما يلزم منه جواز إطلاق اللفظ على غيره سبحانه وتعالى وهذا ينقض كونه اسماً مختصاً به، وكذا تنتفي الحاجة إلى تقدير كلمة لا تتوافق مع الضوابط التي حددها العلماء للحذف في النحو.
وأما عن استدلال بعض المفسرين بصحة التقدير في الآية المباركة وتحديدهم للمحذوف بكلمة (أمر) بما ورد في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) ([34]) وكون الآية الثانية مفسرة للأولى طبقاً لمنهج تفسير القرآن بالقرآن([35]). وما ورد عنهم (عليهم السلام) في بعض الروايات ما ظاهره تقدير كلمة (أمر) ونسبة المجيء إلى أمره لا إليه سبحانه وتعالى ([36])،
فهي في الحقيقة لا تعدو ما ذكرناه من أن المقصود بكلمة (رب) في الآية (الرب المقيد)، أي: المخلوق لا (الرب المطلق) وهو الله سبحانه وتعالى؛ فقد عبرت بعض الروايات عن آل محمد (عليهم السلام) بأنهم أمر الله (نحن أمر الله عزّ وجلّ وجنوده) ([37])، وبذلك يكون المعنى واحداً في الحالتين، فالمراد بقوله تعالى: (وجاء ربك) وقوله تعالى: (أو يأتي أمر ربك) واحد، وهو الرب المقيد وهم محمد وآل محمد (عليهم السلام)، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى تقدير محذوف في الآية.
فالشبهة تبقى قائمة مع إطلاق الرواية كلمة (الرب) لأمره سبحانه وتعالى وتريد بها الرب المطلق، أما مع إطلاقها على أمره وتريد بها الرب المقيد أو المعنى العام للفظ، فلا مانع من ذلك وتؤكده الرواية السابقة في أنهم (عليهم السلام) أمر الله.
وهذا التفسير تؤيده بعض التأويلات التي قيلت في الآية كالوجه القائل بجواز إطلاق (الرب) على (أمره) مجازاً، فإذا ساغ إطلاق (الرب) على أمره سبحانه وتعالى ساغ إطلاقه أيضاً على بعض عباده مجازاً كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، بل هذا ظاهر بعض رواياتهم التي بينت أن القائم (عليه السلام) والمؤمنين معه من مصاديق الآية المباركة ([38]).
والدلالة المتحصلة من لفظة (رب) في هذه الدراسة يمكن تطبيقها على بعض النصوص الروائية المتشابهة التي تسببت في خلاف عميق بين المذاهب الإسلامية وترتب عليها انحراف عقدي لدى بعض الفرق كالقول بالتجسيم وغيره، كالرواية الواردة في صحيح البخاري في بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ):
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، وَهُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ قَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَافْعَلُوا)([39]).
فالمقصود بالرب هنا هو رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فهو الرب المقيد الذي يراه المؤمنون يوم القيامة، وليس المقصود ربهم المطلق وهو الله، سبحانه وتعالى عن الرؤية البصرية ومستلزماتها، فمحمد وأوصياؤه هم وجه الله، وهم مرآة تعكس صفات الله، وهذا المعنى ينسجم مع ما ورد عن آل محمد (عليهم السلام) بهذا الخصوص، وإليك هذه الرواية:
(محمد بن العباس: عن أحمد بن هوذة، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن هاشم الصيداوي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا هاشم، حدثني أبي وهو خير مني، عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: ما من رجل من فقراء المؤمنين من شيعتنا إلا وليس عليه تبعة. قلت: جعلت فداك، وما التبعة؟ قال: من الإحدى وخمسين ركعة، ومن صوم ثلاثة أيام من الشهر، فإذا كان يوم القيامة خرجوا من قبورهم ووجوهم مثل القمر ليلة البدر، فيقال للرجل منهم: سل تعط، فيقول: أسأل ربي النظر إلى وجه محمد (صلى الله عليه وآله)، قال: فيأذن الله عز وجل لأهل الجنة أن يزوروا محمداً (صلى الله عليه وآله)، قال: فينصب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) منبر من نور على درنوك من درانيك الجنة، له ألف مرقاة، بين المرقاة إلى المرقاة ركضة الفرس، فيصعد محمد (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام). قال: فيحف ذلك المنبر شيعة آل محمد (عليهم السلام)، فينظر الله إليهم، وهو قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) – قال- فيلقى عليهم من النور حتى إن أحدهم إذا رجع لم تقدر الحور أن تملأ بصرها منه. قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هاشم، لمثل هذا فليعمل العاملون) ([40]).
اتضح مما سبق أن العرب لا يحذفون ما يكون سبباً في الغموض والإبهام لدى المخاطب أو السامع، ولا يصدر مثل هذا الأسلوب من الحكيم المطلق سبحانه وتعالى؛ لتسببه في شبهة عقائدية من شأنها أن تولد انحرافاً في عقيدة التوحيد، فضلاً عن اشتماله على جملة من المخالفات النحوية.
وإذا كان الباعث على تأويل الآية اختصاص لفظ (الرب) واتصافه بصفات المخلوقين كالإتيان، فالشبهة تبقى قائمة مع هذا التقدير واطلاق اسمه الخاص بذاته المقدسة على أمره سبحانه وتعالى، وهو المحذور الذي استدعى مثل هذا التوجيه.
كل المؤشرات اللغوية والقرآنية والروائية تدل على جواز إطلاق لفظ (الرب) على غيره سبحانه وتعالى على سبيل التقييد، أي أن اتصاف المخلوق به مشوب بشائبة العدم والاحتياج إليه سبحانه وتعالى، ويبقى هو الكامل المطلق والمربي لخلقه من دون احتياج منه إلى أحد.
كل ما ذكرناه من الأدلة والإيضاحات تعضد الوجه الذي طرحناه في كون المقصود بقوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) هو الرب المقيد لا المطلق، فهذا التفسير للآية هو الأنسب من بين الوجوه الأخرى؛ إذ يمكن به رفع الإشكالات العقدية والنحوية واللغوية التي تسبب بها القول بالحذف، وينسجم مع الواقع الروائي الذي يدعم ما ذكرناه بعيداً عن التأويلات. وهو أيضاً يحل الإشكالات المرتبطة ببعض النصوص الروائية ويرفع التشابه عنها.
[1]– ينظر: البرهان في علوم القران: 3/102.
[2]– ينظر: أصول التفكير النحوي: 249.
[3]– ينظر: الكتاب: 2/130.
[4]– ينظر: نفسه: 1/212.
[5]– ينظر: المقتضب: 3/215.
[6]– ينظر: الكتاب: 2/239.
[7]– ينظر: الإتقان في علوم القران: 3/190.
[8]– ينظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 786 وما بعدها.
[9]– ينظر: الخصائص: 2/362.
[10]– ينظر: نفسه: 2/362.
[11]– ينظر: تفسير جزء عم للعثيمين: 199.
[12]– ينظر: الميزان: 20/284.
[13]– ينظر : التبيان في تفسير القران: 4/327.
[14]– ينظر على سبيل المثال: إعراب القرآن وبيانه: 10/475.
[15]– ينظر : المفصل في صنعة الإعراب: 134.
[16]– دلائل الإعجاز: 146.
[17]– ينظر: الأمثل: 2/81.
[18]– ينظر: مغني اللبيب: 802 وما بعدها.
[19]– ينظر: شرح الرضي على الكافية: 1/509.
[20]– ينظر: لسان العرب: 1/399.
[21]– ينظر: معجم مقاييس اللغة: 2/381.
[22]– ينظر: لسان العرب: 1/400.
[23]– ينظر: تفسير الطبري: 1/143.
[24]– ينظر: المفردات: 336.
[25]– سورة النازعات: 5.
[26]– ينظر : بحار الأنوار: 65/18.
[27]– سورة السجدة: 11.
[28]– سورة ص: 36.
[29]– سورة مريم: 19.
[30]– سورة يوسف: 23.
[31]– ينظر: مجمع البيان: 5/297.
[32]– سورة الزمر: 69.
[33]– ينظر: البرهان في تفسير القران: 6/565.
[34]– سورة النحل: 33.
[35]– ينظر: الميزان: 20/284.
[36]– ينظر: تفسير نور الثقلين: 1/207.
[37]– مستدرك سفينة البحار: 1/182.
[38]– ينظر : مختصر بصائر الدرجات: 201- 202.
[39]– صحيح البخاري: 9/127.
[40]– البرهان في تفسير القران: 29/170.