طالوت وجيشه : من شرب من النهر ومن لم يشرب

طالوت

 

 

قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) البقرة 146-152 .

بعد موسى (ع) بمدة ليست بقصيرة تسلط جالوت الكافر وجنوده على بني إسرائيل ، واستضعفوهم وأخرجوهم من ديارهم ، ولم يكن هذا التسلط الطاغوتي على بني إسرائيل ، إلا بسبب ضعف الأيمان والتقوى ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والركون إلى الحياة الدنيا ، وترك الجهاد والتمرد على الأنبياء والأوامر الإلهية . وعوامل كثيرة أدت ببني إسرائيل إلى الرجوع لحالة شبيهة بحالتهم قبل بعث موسى (ع) ، وهي حالة الخضوع والتسليم للطاغوت التي كان علاجها التيه في صحراء سيناء . فشاء الله سبحانه أن يتسلط على بني إسرائيل جالوت وجنوده ، لعل بعضهم يثوب إلى رشده ، ويتوب إلى ربه . وتحصل حالة إصلاح في جماعة بني إسرائيل ، كالتي حدثت في صحراء سيناء  في سنين التيه الأربعين ، عندما نشأ جيل في تلك الصحراء ، وحمل كلمة (لا اله إلا الله) إلى أهل الارض ، وبالفعل فقد نشأ هذه المرة في بني إسرائيل جيل صالح ، وأمة ربانية مجاهدة ، وهم الثلاثمائة والثلاث عشر رجلاً الذين عبروا مع طالوت النهر ، الفتنة التي امتحنهم الله بها ، ليرى مدى التزامهم بالأوامر الالهية وطاعتهم لنبيهم ولطالوت (القائد المعين من الله) كما نشأ في بني إسرائيل جماعة ،هم اقل أيمانا من هؤلاء النخبة ، وهم الذين اغترفوا غرفة من النهر ، ومن الضروري أن نعرف أن فتـنة النهر كانت ضرورية ، لتمحيص المؤمنين ، وإبراز المقربين وأهل الإخلاص منهم ، ثم أنها كانت كبيرة حيث كان جنود بني إسرائيل في حالة عطش شديدة عند وصولهم إلى النهر ، فالذين شربوا من الماء كانوا لا يريدون الهلاك عطشا حسب زعمهم ، فكانت الحياة عندهم أهم من طاعة الله ، أما الذين لم يشربوا من الماء فكانوا يرون الهلاك عطشاً في طاعة الله خير من البقاء أحياء في معصية الله ، بل كانوا على يقين أن الله سبحانه الذي نهاهم عن الشرب من هذا النهر ، سيبدلهم خيرا منه ، ولم يكن سبحانه ليتركهم يهلكوا عطشا . وهكذا نرى أن هؤلاء الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا انتصروا على جالوت وجنوده حال عبورهم النهر .  

أما أولئك الذين شربوا من النهر ، فانهم هُزموا وأحسوا بالوهن والضعف حال معصيتهم لله وأطاعتهم للهوى والشيطان ، فلم يكن قولهم (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) إلا تحصيل حاصل و إبراز للهزيمة التي انطوت عليها نفوسهم .

والتقى الجمعان حزب الله بقيادة طالوت ، وحزب الشيطان بقيادة جالوت . وكان جيش جالوت متفوقاً عدة وعدداً ، ولم يكن مع طالوت إلا القليل من المؤمنين الذين لم يشربوا من النهر ، والذين اغترفوا غرفة ، وكان معه المنافقون الذين شربوا من النهر ، وقبل أن تبدأ المعركة التجأ النخبة الإلهية والأمة الربانية إلى الله ، وطلبوا منه الصبر والثبات والنصر ، فأيدهم الله بنصره (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فقتل أحد هؤلاء المؤمنين المخلصين لله جالوت ، فهزم الجمع وولوا الدبر ، ونكص الشيطان على عقبيه وقال (أني أرى مالا ترون) ، ولم يكن هذا العبد الصالح الذي قتل جالوت إلا داود (ع) الذي اصطفاه الله سبحانه بعد ذلك وجعله نبيا عظيما وملكا عادلا ، بعد أن كان مؤمنا مخلصا لله ومجاهدا شجاعا لا يخشى إلا الله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) سـبأ:11 .