فتنة العجل

فتنة العجل

 

 

قال تعالى : ] وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ البقرة 93 .

وقال تعالى ] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ* وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[ الأعراف148-  

وقال تعالى ] قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِي ُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً[ طه 87-98.

حدثت فتنة العجل في سنين التيه الأربعين ، التي تاه فيها بنو إسرائيل في صحراء سيناء ، عقوبة لتمردهم على الأوامر الإلهية ، وإصلاحاً لما فسد في نفوسهم ، حيث واعد الله سبحانه وتعالى موسى (ع) ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر قال تعالى :

]وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ [ الأعراف 143 .

ولم يكن سبحانه وتعالى يجهل أن الميقات أربعين ليلة ، ولم يكن سبحانه وتعالى يكذب على موسى سبحانه وتعالى  علوا كبيرا ، وإنما واعده ثلاثين ليلة ، وكانت العشر التمام للأربعين معتمدة على أمر أخر لم يحدث بعد ، كدعاء أو صدقة أو أي عمل يقوم به موسى (ع) . أو تقصير من جماعة بني إسرائيل يعاقبون عليه بغياب موسى (ع) عشر ليالي إضافية ، ففي علم الله سبحانه أن موسى سيغيب أربعين ليلة ، لكن في لوح المحو والإثبات أن موسى سيغيب ثلاثين ليلة ، فان حصل الأمر الفلاني من موسى (ع) أو بني إسرائيل فانه سيتمها أربعين ليلة قال تعالى :

(يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد:39 .

وهذا يشبه دعاء أيٌ منّا ليدفع الله عنه البلاء ، أو يرزقه من رحمته ما يشاء . فلو كانت الأمور لا تتبدل لبطل الدعاء ولأمسى لغوا لا نفع فيه ، لكن الله سبحانه قدر المقادير ويداه مبسوطتان يوسع على من يشاء ، ويقتر كيفما يشاء ، وهو احكم الحاكمين ، وهذا هو البداء الحق المبين في الذكر الحكيم ، الذي أنكره الجاهلون وقالوا أن الله فرغ من كل شيء . وجعلوا يداه مغلولتان يظاهون قول اليهود . هذا وهناك من علماء السنة من يثبت البداء كابن الجوزية في كتابه الجواب الكافي في فصل الدعاء وهو وان لم يصرح باللفظ فقد اثبت المعنى سواء بالروايات عن النبي (ص) أو بمناقشته لفائدة الدعاء .

وفي هذه الليالي الأربعين استغل السامري غياب موسى (ع) ، وقام بصياغة عجل من الحلي والقى السامري في هذا العجل حفنة تراب أخذها من تحت حافر فرس جبرائيل (ع) ، فخرج العجل الجسد له خوار أي صوت كصوت العجل الحي . قال موسى (ع) (يا رب العجل من السامري فالخوار ممن قال : مني يا موسى إني لما رايتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة)[1] . وقال لهم السامري هذا إلهكم واله موسى ، أي أن إلهكم حل في هذا العجل وصدقه الكثير من بني إسرائيل ، بعد أن أعانوه على صناعة العجل ، ويجدر بنا أن نتدبر هذه الحادثة في القران وندرسها ، لعل الله يمن علينا بحياة السعداء وميتة الشهداء ، كما وعدنا رسول الله (ص) عند دراسة القرآن . فإذا أقررتم أيها الأحبة دراسة هذه الحادثة فتعالوا معي نتساءل ، من هو السامري  ؟ وهل كان عالما من علماء بني إسرائيل ؟ وهل كان متعبدا ناسكا ؟ حيث (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً … ) طه : 96 .

يبدو من سياق الآية انه كان يرى جبرائيل (ع) أو أمور غيبية ، لم يكن غيره يراها . ثم هل كان السامري مجاهدا ؟ ورد هذا المعنى في تفسير الآية ( فَاسْتَغَاثَهُ  الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ) انه السامري فلو صح هذا لكان السامري مجاهدا ، قاتل جـنود الطاغية ، فرعون في مصر قبل بعث موسى (ع) . ثم من الذي نسى ؟. موسى (ع) ، أي نسى إلهه هاهنا وذهب إلى الطور فيكون الكلام بلسان السامري ، والحق أن هذا بعيد ، لان بني إسرائيل يعلمون أن موسى ذهب إلى الطور بأمر الله ، أذن فيكون الناسي هو السامري ، أي ترك الأيمان الحقيقي ، والمعبود الحق فيكون الكلام من الله سبحانه ، ثم ما الذي سولت له نفسه ، الحق أن هذا هو اصل كل الفتنة ، الهوى والانا والشيطان وزخرف الدنيا ، سولت له نفسه الأمارة بالسوء انه افضل من هارون (ع) ، وتمرد عليه ولم يطع أمره وتكبر ، لقد سولت له نفسه انه عالم وعابد وناسك ، وربما مجاهد وكشفت له بعض الأمور الغيبية ، فهو أحق من هارون (ع) بقيادة بني إسرائيل في غيبة موسى (ع) ، وحسد هارون و موسى (ع) فاخذ التكبر منه كل مأخذ ، و تمكن منه الهوى والأنا كل التمكن ، و أرداه الشيطان في الهاوية وجعله يتكبر على الأنبياء العظام (ع) كما تكبر هو على أدم (ع) فاستفزه الشيطان بندائه وأغواه بغوايته ، وأصابه بدائه فنزلت الحجب على مرآة الروح لما اشترى الضلالة بالهدى ، فلم يعد يرى :-

(وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الأعراف 198.

ونسي الحقيقة والمعبود الحق ، الذي لايرى بالأبصار ولا تدركه الأوهام ، فعاد إلى أخس أنواع الشرك إلى التشبيه . فاخرج ما انطوت عليه نفسه ، عجلاً جسداً له خوار ، يكون فتنة يفرح بها قوم انطوت عليها نفوسهم قبل ظهورها ، واشربوا العجل قبل صياغته ، فكم اعترضوا على موسى وهارون (ع) ، وكم آذوا موسى (ع) (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا  أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) الصف:5 .

كان كثير من بني إسرائيل يرون انهم خير من موسى (ع) ، أما هارون (ع) فلم يكن له وزن عند كثير منهم ، جاء في التوراة ( واخذ قورح بن يصهار بن فهاث بن لاوي ود اثان وابرام ابنا الياب واون بن قالت بنوراوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل … فاجتمعوا على موسى وهارون ، وقالوا لهما كفاكما أن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب . فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قو رح وجميع قومه قائلا غداً يعلن الرب من هو له ومن المقدس حتى يقربه أليه) الإصحاح السادس عشر .

(وكلم الرب موسى قائلا كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا لكل بيت أب من جميع رؤسائهم حسب بيوت آبائهم اثنتي عشرة عصا واسم كل واحد تكتبه على عصاه واسم هارون تكتبه على عصا لاوي لان لراس بيت آبائهم عصا واحده . وضعها في خيمه الاجتماع أمام الشهادة حيث اجتمع بكم ، فالرجل الذي اختاره تفرخ عصاه فاسكن عني تذمرات بني إسرائيل التي يتذمرونها عليكما ، فكلم موسى بني إسرائيل ، فأعطاه جميع رؤسائهم عصا عصا لكل رئيس حسب بيوت آبائهم اثنتي عشره عصا ، وعصا هارون بين عصيهم . فوضع موسى العصي أمام الرب في خيمة الشهادة وفي الغد دخل موسى إلى خيمة الشهادة ، وإذا عصا هارون لبيت لاوي قد أفرخت واخرجت فروخا و أزهرت زهرا وانضحت لوزا فاخرج موسى جميع العصي من أمام الرب إلى جميع بني إسرائيل ، فنظروا واخذ كل واحد عصاه وقال الرب لموسى رد عصا هارون إلى أمام الشهادة لاجل الحفظ ، علامةٌ لبني التمرد فتكف تذمراتهم عني لكي لا يموتوا ففعل موسى كما أمره الرب كذلك فعل) الإصحاح - 17  .

(وارتحلوا من جبل هور في طريق بحر سوف ليدوروا بأرض ادوم فضاقت نفس الشعب في الطريق وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية لأنه لا خبز ولا ماء وكرهت أنفسنا الطعام السخيف ) الإصحاح - 21 .

وهكذا كان السامري وعجله الجسد متنفس لهؤلاء الفاسقين ، ليخرجوا ما انطوت عليه نفوسهم من بغض وحسد لموسى وهارون (ع) ، ولهارون (ع) بالذات ، لان القدح بشخصه (ع)  والطعن بنبوته وقيادته أيسر . وذلك لان لموسى (ع)  مكانة كبيرة وهيبة عظيمة في نفوس كثير من بني إسرائيل لما ظهر على يديه من المعجزات ، وهكذا استضعف هؤلاء المنافقين الذين اتبعوا السامري هارون (ع) والجماعة الذين رابطوا معه على الحق ، وحاولوا قتل هارون (ع) ، ولكنه تعامل مع الفتنة بحكمة الأنبياء ، ثم تربص حتى عاد موسى (ع) . ونصره الله واظهر حقه وحكم العقيدة الفاسدة ، واظهر مكانها العقيدة الصحيحة ، والحق الذي يريده الله :-

( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) (طه  97 _ 98).