محطات على ضفاف الوصية المقدسة: المحطة الثالثة عشرة: رواية الوصية المقدسة والإشكال السندي
قالوا: توضح لنا موقع الوصية المقدسة في دين الله والاستدلال بها على صاحب الحق الالهي، ولكن بقي عندنا بعض الاشكالات التي يثيرها أدعياء العلم اليوم، نود أن نطرحها عليك لنستمع إلى إجابتها ؟
قلت: لا بأس، ولكن ينبغي أن تعلموا أولاً أنّ الدليل يُقابَل بالدليل والحجة تُنقَض بالحجة، وأما رد الدليل بالاشكال عليه فلا يفعله طويلب فضلاً عمَن يدعي علماً، وهذا هو السبيل العلمي السليم لمن يحترم عقله. ومن طالع المحطات السابقة عرف بما لا يقبل الشك أنّ الوصية المقدسة دليل تام وكاف للتعريف بصاحبها الذي يحتج بها، فإن كان بوسع أدعياء العلم أن ينقضوا الاستدلال فليتقدموا وليسمعونا ما عندهم، وأما الاكتفاء بطرح الاشكال فهو مذهب الزنادقة والمعاندين ليس إلا. ولكي أنصفكم فسأطلب منكم البدء بطرح الاشكالات المثارة على الوصية المقدسة، لنرى قيمتها ونبين الإجابة عليها.
قالوا: سمعناهم يقولون إنّ الوصية المقدسة هي أشبه بكلام العجائز أو إنها رواية سخيفة أو يرمى بها عرض الجدار أو تُداس بالأقدام على حد تعبير بعضهم ؟
قلت: نستجير بالله من هذه الزندقة الصريحة، إنها جرأة تكشف عن خبث سريرتهم وقذارة طويتهم، فقديماً وصف واصفهم مملي الوصية بالهذيان (وحاشاه) دفعاً لحق صاحبها أول الائمة الاثني عشر وولده الطاهرين (ع)، وهؤلاء يصفونها اليوم بما ذكرتم دفعاً لحق صاحبها أول المهديين الاثني عشر وولده الطاهرين (ع)، فما أشبه اليوم بالبارحة!!
قال الامام الباقر (ع): (والله إن أحب أصحابي إلي أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا وإن أسوأهم عندي حالا وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفر من دان به وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا) [الكافي: ج2 ص223 ح7].
قالوا: يقولون إنّ رواية الوصية المنقولة في كتاب الغيبة ضعيفة السند؟
قلت: هذا يكشف لكم عن جهلهم وفقدانهم لأبسط المعلومات التي يعرفها طالب العلوم الدينية في أوائل مراحله الدراسية، وبيانه يتضح بملاحظة النقاط التالية:
الأولى: إنّ رواية الوصية المقدسة متواترة معنى، وما كان متواتراً لا يخضع للتقسيم الرباعي بكل تأكيد. وأقصد بالتقسيم الرباعي تقسيم الخبر بحسب سنده إلى: (صحيح، حسن، موثق، ضعيف).
قالوا: وماذا تقصد بالمتواتر معنى ؟
قلت: إن التواتر تارة يكون في لفظ الخبر، بمعنى أنّ لفظ الخبر يتم نقله من قبل جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كقول النبي (ص): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه). وأخرى يكون في معنى الخبر ومضمونه، كتواتر شجاعة علي (ع)، فقد بينتها روايات كثيرة بألفاظ متعددة يمتنع اجتماع أصحابها على الكذب ولكنها تشترك جميعاً في إثبات مضمون واحد.
ومضمون الوصية المقدسة واضح في بيان أنّ الاوصياء من آل محمد (ع) هم 12 اماماً و12 مهدياً، وهذا المضمون لم تنفرد به الوصية المقدسة، بل ذكرته عشرات الروايات، وبوسع الجميع الرجوع إلى كتاب (الاربعون حديثاً في المهديين وذرية القائم) للشيخ ناظم العقيلي، أو كتاب (جامع الادلة) للدكتور عبد الرزاق الديراوي، وهما منشوران في الموقع الرسمي للدعوة اليمانية المباركة، للاطلاع على بعض تلك الروايات. وبهذا يتضح أنّ الوصية المقدسة متواترة معنى.
النقطة الثانية: إنّ الرواية التي تخضع للتقسيم الرباعي الذي حدث مؤخراً إنما هو بالنسبة للخبر الخالي عن القرينة، وأما المحفوف بالقرينة فلا يخضع للتقسيم المذكور بكل تأكيد، وهم إن سوّلت لهم انفسهم للتشكيك بتواتر الوصية المقدسة فليس بوسعهم التشكيك في احتفافها بالقرائن المؤكدة أنّ بعد القائم اثنا عشر مهدياً كما نصت عليه الروايات الكثيرة، على أنّ القرائن لا تقتصر على الروايات فقط وإنما هناك قرائن قرآنية أيضاً، وبوسع الجميع مراجعة بعض تلك القرائن في كتاب (دفاعاً عن الوصية) للشيخ ناظم العقيلي أو كتاب (البينات على أحقية الوصي أحمد الحسن)، وهما أيضاً منشوران في الموقع الرسمي للدعوة اليمانية المباركة.
يقول الحر العاملي: (( السابع عشر: أنهم اتفقوا على أن مورد التقسيم هو خبر الواحد الخالي عن القرينة. وقد عرفت: أن أخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن، وقد اعترف بذلك أصحاب الاصطلاح الجديد في عدة مواضع قد نقلنا بعضها. فظهر ضعف التقسيم المذكور وعدم وجود موضوعة في الكتب المعتمدة. وقد ذكر صاحب (المنتقى) أن: أكثر أنواع الحديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخرين من مستخرجات العامة، بعد وقوع معانيها في أحاديثهم، وأنه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا )) [الوسائل: ج30 ص263].
النقطة الثالثة: لو تنزلنا معهم وأردنا غثبات صحة سند الوصية فيكفينا لتحقيق ذلك أنّ نثبت أنّ رواتها شيعة، وصادقون. وقد تكفل الشيخ الطوسي إثبات تشيع رواتها حيث ذكرها ضمن روايات الخاصة، قال: (فأما ما روي من جهة الخاصة فأكثر من أن يحصى، غير أنا نذكر طرفا منها ....) [الغيبة: ص137]. ثم وبعد أن سرد الروايات ومنها الوصية قال: (أما الذي يدل على صحتها فإن الشيعة يروونها على وجه التواتر خلفاً عن سلف وطريقة تصحيح ذلك موجودة في كتب الإمامية في النصوص على أمير المؤمنين (ع) والطريقة واحدة) [الغيبة: ص156].
وأما صدق رواتها، فيكفي لإثباته - بعد كونهم شيعة - أنه لم يثبت بدليل شرعي القدح في واحد منهم، فمعلوم أنّ المؤمن صادق في قوله حتى يقام دليل شرعي على كذبه، ومن يقول إنّ الأصل في المؤمن الكذب حتى يثبت صدقه، فقوله باطل بكل وضوح؛ لأنه بهذا يُفسّق جمهور المؤمنين ويعتبرهم كذابين حتى يثبت صدق كل فرد منهم بالدليل الشرعي، وهل يلتزم بهذا عاقل يحترم عقله !! كما أنه قول مخالف للقرآن الذي بيَّن منهج الرسول (ص)، حيث وصفه ربه بالسماع من المؤمنين وتصديقهم لمجرد إيمانهم، قال تعالى: ((وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [التوبة: 61]، فهو (ص) كان يسمع لهم ويصدقهم لأنهم مؤمنون ولم يقل عن مؤمن أنه مجهول الحال أو أنه كذاب حتى يثبت صدقه ؟!! وبهذا يتضح أنّ الوصية صحيحة السند.
قالوا: ونسمع من بعضهم أيضاً القول بأنّ الوصية رواية آحاد، ورواية الآحاد لا تفيد الا الظن، فكيف يُستدَل بها في أمر عقائدي ؟
قلت: قلنا إنّ الوصية المقدسة متواترة معنى ومحفوفة بالقرائن، وما كان حاله كذلك فهو يفيد العلم والقطع لا الظن، كما هو معلوم.
قال الشيخ الطوسي: (( فأما ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد .. إن كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم )) [عدة الاصول (ط.ج): ج1 ص127].
قالوا: بقيت لدينا إشكالات دلالية على نص الوصية سمعناها منهم ؟
قلت: سينسفها ربي في اليم نسفاً بحوله وقوته، ولكن أجّلوا ذلك إلى المحطة القادمة إن شاء الله.