محطات على ضفاف الوصية المقدسة: المحطة الرابعة عشرة: رواية الوصية المقدسة والإشكال الدلالي
قالوا: نسمع بعض أدعياء العلم يقولون إنّ رواية الوصية لا تصح دليلاً على صدق صاحب دعوة الحق اليمانية لوجود إشكالات دلالية عليها، منها: إنّ الوصية تذكر عدة أسماء لأمير المؤمنين (ع) ومنها المهدي ثم تقول: (فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك)، والحال أننا نطلق على الإمام المهدي (ع) إنه المهدي !!
قلت: هذا المقطع الوارد ذكره في الوصية: (.. سمّاك الله تعالى في سمائه علياً المرتضى وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون والمهدي فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك)، وبقراءته يتضح:
أولاً: إنّ الوارد اختصاص الامام علي (ع) به هو عدة أسماء وليس اسماً واحداً، وعدم صحة الاطلاق على غيره (ع) إنما هو بالنسبة لتلك الأسماء المذكورة لا في واحد منها، كما أنّ التسمية كانت في السماء.
وثانياً: إنّ اسم (المهدي) معطوف على ما سبقه من أسماء والتي كان منها (الصديق الأكبر) و(الفاروق الأعظم)، وهو يعني أنّ هناك صديقاً وفاروقاً إلا أنّ أمير المؤمنين (ع) يختص بأنه الأكبر والأعظم من بينهم، وهو أمر معروف لدى أتباع الخلافة الالهية، فكل خليفة لله في زمانه صديق إلهي وفاروق لأهل زمانه بين الحق والباطل، ولكن الإمام علي (ع) لما كان سيد الأوصياء وأفضلهم وأشرفهم فإسم المهدي الذي يطلق عليه والحال هذه يتناسب مع كونه فاروقاً أعظم وصديقاً أكبر، و(المهدي) بهذا المعنى لا يشارك الإمام علياً (ع) فيه أحدٌ من ولده الأوصياء بما فيهم الحسن والحسين (ع) فضلاً عن الائمة من ولد الحسين (ع).
قالوا: ومن الاشكالات أيضاً: إنّ الوصية تُخبر أنّ لأول المهديين ثلاثة أسماء، ولكنها تذكر له أربعة أسماء، فقوله (ص) اسم كاسمي يعني محمد، والثاني عبد الله، والثالث أحمد، والرابع المهدي. وهذا يجعلها مضطربة المتن ويؤدي إلى سقوطها كما يقولون !!
قلت: هذا إشكال طرحه البعض وتبنّاه مركز الدراسات التخصصية التابع لمرجعية السيستاني، والأحرى بهم أن يقفلوا دكانهم الذي فتحوه لرد الدعوة اليمانية الحقة، والحقيقة إنّ اتهام الكتاب العاصم من الضلال بالاضطراب نتيجة ضعف ممليه (ص) بالحساب (وحاشاه) ما أراه إلى عبارة أخرى عن اتهامه بالهجر والهذيان (وحاشاه). وأما إجابة الإشكال فهي:
إما أن نقول: إنّ قوله (ص): (وهو عبد الله وأحمد) بيان وتوضيح لما قبله أي قوله (ص): (اسم كاسمي واسم أبي)، فابتدأ (ص) بذكر اسم أبيه (ع) أي (عبد الله) ثم عطف عليه اسمه أي (أحمد)، وأكيد أنّ النبي (ص) له عدة أسماء أوضح الله سبحانه في كتابه أن (أحمد) منها كما أنّ محمداً وطه منها، فلا أعرف كيف عدّوا الاسم الأول (محمد) مع أنّ التصريح ورد بأحمد ؟!!
أو نقول: إنّ (عبد الله) اسمٌ للنبي ولأبيه (ص) معاً، باعتبار أنه واحد من أسمائه أيضاً، قال (ص): (اسمي أحمد وأنا عبد الله اسمي إسرائيل، فما أمره فقد أمرني وما عناه فقد عنان) [تفسير العياشي: ج1 ص44].
قالوا: ومنها: إنّ رواية الوصية تذكر أنّ المهديين يكونون بعد الامام المهدي (ع)، (.. ثم يكون من بعده إثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه أول المقربين ..)، ومن ثمَّ فكيف احتج أحمد الحسن بالوصية، فهل مات الامام المهدي (ع) ؟!!
قلت: فعلاً أنّ المهديين (ع) وتحديداً المهدي الأول منهم (المتواجد في زمن الظهور المقدس) ابتدأ دوره بعد الامام المهدي (ع) الذي كانت إمامته سنة 260 ه كما هو معلوم، فهو (ع) لم يمت، والسيد أحمد الحسن يعرف نفسه للناس اليوم بأنه وصيه ورسول منه إليهم.
وأما إن كانوا يقصدون أنّ الوصي لا دور له تماماً إلا بعد موت الموصي، فهو أمر يكذبهم فيه القرآن الكريم وروايات الطاهرين (ع).
فهارون (ع) كان وصي موسى (ع) وخليفته ووزيره، قال تعالى: (.. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الأعراف: 142. وقال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) طه: 29 - 31.
وهارون (ع) مات قبل موسى (ع)، فلو لم يكن له دور أصلاً في زمان حياة الموصي فأين سيكون زمن وصايته وخلافته ووزارته له ؟!!
بلى، كان له دور في حياة أخيه، فكان حجة وطاعته واجبة أيضاً، ولهذا أرسله أخوه إلى أهل مصر قبل رجوعه لها، وصار هو المباشر لهم وهو يدعوهم إلى الله سبحانه، ولهذا قدّموا ذكره قبل موسى (ع)، قال تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) طه: 70.
وأما الروايات، فهذا مثال منها:
عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: (( سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) ... أكَانَ عَلِيٌّ (ع) حُجَّةً مِنَ اللَّه ورَسُولِه عَلَى هَذِه الأُمَّةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّه (ص) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَوْمَ أَقَامَه لِلنَّاسِ ونَصَبَه عَلَماً ودَعَاهُمْ إِلَى وَلَايَتِه وأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِه. قُلْتُ: وكَانَتْ طَاعَةُ عَلِيٍّ (ع) وَاجِبَةً عَلَى النَّاسِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّه (ص) وبَعْدَ وَفَاتِه ؟ فَقَالَ: نَعَمْ ولَكِنَّه صَمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَ رَسُولِ اللَّه (ص) وكَانَتِ الطَّاعَةُ لِرَسُولِ اللَّه (ص) عَلَى أُمَّتِه وعَلَى عَلِيٍّ (ع) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّه (ص) وكَانَتِ الطَّاعَةُ مِنَ اللَّه ومِنْ رَسُولِه عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِعَلِيٍّ (ع) بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّه (ص) وكَانَ عَلِيٌّ (ع) حَكِيماً عَالِماً )) الكافي: ج1 ص382.
قالوا: يبدو ان إشكالهم الأخير منطلق من الروايات التي تقول بعدم اجتماع حجتين في زمان واحد ؟
قلت: وهذا جهل آخر منهم بكتاب الله وسنة خلفائه، فكلاهما أكد اجتماع حجتين في زمن واحد، فهذا كتاب الله يحدثنا عن اجتماع ابراهيم ولوط (ع)، وموسى وهارون (ع)، ودواد وسليمان (ع)، في زمن واحد، وأما الروايات التي تؤكد عدم اجتماع حجتين في زمان واحد انما هو فيما لو كانا في مكان واحد وكلاهما كان ناطقاً (اي كانا في عرض واحد)، واما اذا كان احدهما محجوج بالآخر ولا ينطق إلا بأمره فاجتماعهما ليس فقط ممكنا بل أمر واقع وحاصل في دين الله إذ كان علي (ع) حجة وناطق على اهل المدينة في غيبة رسول الله (ص)، فحجيته ووجوب طاعته أمر واضح كما أشار له الحديث أعلاه. وحال السيد أحمد الحسن (ع) كذلك اليوم.