محطات على ضفاف الوصية المقدسة: المحطة الحادية عشرة: هل تكفي الوصية المقدسة لإثبات صدق المحتج بها ؟!

 

قالوا: إذا احتج شخص ما بالوصية المقدسة، فهل يدل ذلك على صدقه وأحقيته ؟

قلت: من يحتج بها فهو صاحبها ويكون ذلك دليلاً على صدقه، وإلا لما صح أن يوصف ذلك الكتاب (الوصية) بأنه عاصم من الضلال لمن تمسك به.

 

قالوا: أوضح لنا أكثر ؟

قلت: إنّ الله سبحانه عبر عن وصية عيسى (ع) بمحمد (ص) بأنها بينة إلهية، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الصف: 6]، ولو كان ذلك النص ممكن أن يدعيه غير صاحبه لما وصفه الله سبحانه بأنه بيّنة إلهية تُعرِّف بصاحب الحق، وواضح أنه لو امكن ادعاءها من قبل مبطل ما عادت بينة إلهية تُعرِّف بصاحب الحق.

 

قالوا: نراك تذكر كثيراً وصف النبي (ص) للكتاب بأنه عاصم من الضلال، فما هو الربط بينه وبين صدق من يحتج به ؟

قلت: إنه (ص) وصفه بأنه كتاب عاصم من الضلال أبداً، ووصفه هذا يجعل من المحال لمبطل أن يدعيه، ومن يقول بإمكان ادعائه من قبل مبطل فهو يتهم الله سبحانه ورسوله بالعجز أو الكذب أو الجهل أو السفه، تعالى الله ورسوله عن ذلك علواً كبيراً.

 

قالوا: وما هي الملازمة بين القول بامكانية ادعاء المبطل للوصية وبين الأمور المذكورة ؟

قلت: إنّ من يقطع وعداً وضماناً لجماعة بالنجاة إذا فعلوا ما أمرهم به، كما لو قطع لهم وعداً أنهم إن شربوا من هذا الموضع فلن يسقوا السم، ثم شربوا وسقوا سمّاً من ذلك الموضع، فمثل ذلك الشخص إما أنه أخلف وعده لعجزه وعدم تمكنه من حفظ ما وعد به لوجود إرادة أقوى حالت دون تحقيق ضمانه، أو أنه كان كاذباً أو عابثاً من البداية، أو أنه كان جاهلاً ولم يعلم بما ستؤول إليه الأمور.

والآن، لو نظرنا إلى وعده (ص) لأمته بأنّ ذلك الكتاب عاصم لمن تمسك به من الضلال، وعلمنا أنه (ص) لا ينطق عن الهوى، فأكيد أننا نتوصل إلى ضرورة أن يحفظ العالم القادر الحكيم المطلق الكتاب من إدعاء المبطلين حتى يتحقق الغرض منه ويحتج به صاحبه، وعدم حفظه منهم مع وعده (ص) بعصمة المتمسك به من الضلال يعني إما العجز عن حفظه، أو الجهل بمآل الأمور أو الكذب أو السفه، وتعالى الله ورسوله عن مثل ذلك علواً كبيراً.

 

قالوا: وهل بيَّن القرآن هذه الحقيقة التي أشرت إليها من ضرورة حفظ النص الإلهي (الوصية) من ادعاءات المبطلين ؟

قلت: نعم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 44 - 46]، فأكيد أنّ مطلق التقول في دين الله موجود دائماً وحكاه القران الكريم وخلفاء الله في رواياتهم، وليس هو المقصود بالآيات المتقدمة، انما المقصود هو التقول بادعاء النص والوصية التي يشخص فيها خليفة إلهي سابق من يليه من خلفاء الله بأسمائهم، فمثل ذلك النص لا يسمح الله لمدعٍ باطل أن يحتج به أو حتى مجرد أن يلتفت إليه، فـ (لو) كما هو معروف حرف امتناع لامتناع، أي امتناع الجزاء لامتناع الشرط، بمعنى أنّ مثل ذلك التقول بادعاء الوصية من قبل مبطل أمر لا يتحقق أبداً، وهو عبارة أخرى عن أنّ الوصية لا يدعيها إلا صاحبها.

 

قالوا: وكيف علمت أنّ التقول المقصود في الآية إنما هو خصوص النص الالهي الذي يشخص خليفة الله ؟

قلت: هذا ما أوضحته الروايات، هذا مثال منها:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ u قَالَ: (سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ"، قَالَ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا وَلَايَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِأَفْوَاهِهِمْ. قُلْتُ: "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ"، قَالَ: وَاللَّهُ مُتِمُّ الْإِمَامَةِ ...... قُلْتُ: قَوْلُهُ: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ"، قَالَ: يَعْنِي جَبْرَئِيلَ عَنِ اللَّهِ فِي وَلَايَةِ عَلِيٍّ (ع). قَالَ: قُلْتُ: "وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ"، قَالَ: قَالُوا إِنَّ مُحَمَّداً كَذَّابٌ عَلَى رَبِّهِ وَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَذَا فِي عَلِيٍّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِذَلِكَ قُرْآناً، فَقَالَ: إِنَّ وَلَايَةَ عَلِيٍّ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا مُحَمَّدٌ بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الكافي: ج1 ص434].

 

قالوا: ولكننا نسمع من (علمائنا) الحاليين ان الاحتجاج بالوصية لا يكفي، ولا يثبت حق المحتج بها، ويمكن ان يدعيها مدع باطل ويحتج بها ؟!

قلت: هذا قول علمائكم، وعليكم ان تعرضوه على الثقلين وسترون كذبهم وجهلهم، فقد طرحت لكم الان دليلا عن صدق رسول الله (ص) في وعده وضمانه بان الوصية كتاب عاصم لامته من الضلال، فلو كان بوسع كل من هب ودب الاحتجاج بها فكيف وصفها (ص) بذلك وضمن للمتمسك بها العصمة من الضلال !! هذا أولاً.

وثانياً: توضح أنّ الوصية إحدى فقرات القانون الالهي الذي خص به خلفاءه في أرضه، والقول بإمكانية الاحتجاج بها من قبل مدعٍ باطل يعني الطعن بقانون الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وثالثاً: سبق أن بينت لكم أنّ الوصية المقدسة من مختصات آل محمد (ع) وبها تُعرف إمامتهم، وذكرت لكم بعض الروايات وأقوال العلماء الموضحة لذلك، فإذا أمكن لمدعٍ باطل الاحتجاج بها كيف وصفت أنها من مختصاتهم ومُعرِّفة بإمامتهم ؟!!

ورابعاً: عرفنا سابقاً أيضاً أنّ صاحب راية الهدى الذي أمرنا آل محمد (ع) بنصرته يُعرَف بالوصية، فلو كان بوسع مدعٍ باطل الاحتجاج بها ما عادت مُعرِّفة بصاحب راية الهدى، فعلماؤكم بقولهم هذا ينسبون السفه لأئمة الهدى (ع)، وحاشاهم من ذلك.

قال الامام الباقر (ع) في وصفه: (ما أشكل عليكم فلم يشكل عليكم عهد نبي الله (ص) ورايته وسلاحه) تفسير العياشي: ج1 ص65.

والحمد لله رب العالمين.