من مغالطات الإلحاد – الدكتور زكي الصبيحاوي
يحاول الإلحاد ـ بوصفه منظومة فكرية ـ التمويه على حقيقة ان للخلق غاية وهدفاً واحداً، والسير الى هذا الهدف سير مقنن بقوانين ثابتة، فالتطور مسيرة مستمرة على وفق قوانين ثابتة الى هدف أو غاية، نعم الفكر البشري يمكنه ان يرى المسيرة واستمرارها وقانونيتها، ولكنه عاجز عن رؤية الغاية، وعجزه بسبب تقصيره لا بسبب قصوره، لانغماسه في التفصيلات، وإيقاف نظره عند الأهداف المرحلية، مع ان الفكر يقول لنا: إن تعدد تلك الأهداف لا يعني تعدد الغايات، بل يدل دلالة واضحة ان هذه الأهداف المتنامية انما هي علائم على الطريق تشهد للسائرين بصحة سيرهم نحو الغاية التي أنتجت تلك الأهداف، وعبّدت الطريق بقوانين ثابتة، فدلت على ان هناك صانعا مقننا هادفا، وإلا من غير المنطقي أن تكون العشوائية منتجة للقوانين ولأهداف متنامية متصاعدة باتجاه الغاية.
يُلحظ على الملحدين أنهم يقعدون في الطريق للمتدينين، ليشككوهم بقدرة الصانع ومن ثم يمهدون لإنكاره ، ومن أساليب التشكيك مثلا ما أجراه دوكنز من تجربة إذ اخذ عدداً من المرضى بنفس المرض، وقسمهم مجموعتين: الأولى أعطيت الدواء، والأخرى ألجأوها الى الصلاة والدعاء، فشفي أعضاء المجموعة الاولى، وبقيت المجموعة الثانية مريضة، ومن هذه التجربة أوهموا الناس بأنه لو كان هناك اله لقام بشفاء من صلّوا له ودعوه، من دون ان يلتفتوا الى انه لا يوجد متدين ولا دين على وجه الارض يقول: إن وظيفة الصلاة هي الشفاء من الأمراض، بل الجميع متفق على ان وظيفة الدواء هي معالجة المرضى.
لذا فالإلحاد يستغل جهل الناس بالتفاصيل ويعمد الى اثارتها بوجههم ليستدل بعجزهم عن وجود الإجابة على انه لا وجود لإله، ولو كان هناك اله لكانت هناك اجابة، هذه الفكرة بحد ذاتها ليست خاطئة، ولكن توظيف الفكرة هو الخاطئ، نعم لابد من وجود إجابة لكل سؤال علمي يثار، والله جل وعلا أعطى الإجابة للناس عامة، ولكن الناس لم يسمعوها، وان سمعوها لم يعوها، ولكن وعتها بعض الاذان، وهذه الاذان الواعية انتخبهم الله سبحانه ليكونوا رسله الى الناس ليعلّموهم ويبينوا لهم ما التبس عليهم من السماع، أو إسماعهم ما غفلوا عن سماعه.
لم يقف الدين ـ وليس المتدينين ـ في اي وقت من الأوقات موقف المحارب او القامع للعلم وحركته، بل على العكس كان الدين هو الداعم والمحفّز للناس على طلب العلم والمعرفة، ونصب نفسه المجيب على كل ما يثار من أسئلة علمية، ولكن من الذي وقف بطريق العلم وحاربه وكفّر من عمل به؟ الفاعل هو المؤسسات الدينية التي بنت لنفسها حكومة على الناس قائمة على مصادرة العلم وطروحاته، ولذلك نرى موقف المؤسسة الدينية من التطور ـ المثبت علمياً ـ موقفا مخزياً وفّر ارضية قوية لانتشار الإلحاد بين الناس، فضلا عن ان تشريعات تلك المؤسسات دفعت الناس دفعا الى الإلحاد، لان الملحدين واجهوا تلك التشريعات الاقصائية العنفية، بتشريعات تحترم وجود الانسان بوصفه الحامل لمشروع الذكاء والمعوّل عليه في قيادة الحياة، وبالمقابل وضعوا تشريعات للرفق بالحيوان، و…. و……، فاستطاعوا من خلال ذلك سحب البساط من تحت أقدام المؤسسة الدينية ليس بوصفها مؤسسة آيلة للسقوط، بل بوصفها الدين الذي لا فائدة فيه.
بناءً على ذلك أقنعوا الناس ان الدين لا يقدم معرفة، بل لا يقدم غير الجهل والخرافات، وها انتم ترون بأم اعينكم المشروع الثقافي البشري قائماً على ان الدين هو تشريع للخرافات والأساطير، على خلاف الإلحاد المستند الى قول العلم ونظرته، ولذلك تراهم يحتجون عليك بنصوص دينية هي؛ إما نصوص غلاة منسوبة الى الدين، او نصوص دينية اشتبه على الناس فهمها، فتبرعت المؤسسة الدينية لبيان القصد منها، فزادت الكلام ضبابية وضيّعت مقاصده؛ لأن أولئك المتبرعين لم يكلفهم صاحب النص ببيان قوله، بل البيان أنيط برجل واحد موجود في كل زمان، وهذا الرجل هو القادر على إحكام المتشابه، وبيانه للناس، وبعد البيان يسقط اتهام النص بالأسطورية، بل وتتوضح علميته السابقة لحركة العلم وما حققه من نتائج.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعوّل الملحدون كثيراً على مواقف المؤسسة الدينية المباينة لمعطيات العلم، كموقفها من نظرية التطور، ويجيّرون رأي تلك المؤسسة باسم الدين، فلا يقولون: إن هذا رأي رجال الدين وهم بشر يعتريهم الجهل، بل يقولون: هذا قول الدين، وموقف الدين، وكان الإنصاف يفرض عليهم أن يكونوا دقيقين في هذه المسألة المهمة، فرجال الدين أو الفقهاء هم ليسوا الدين ولا هم ممثلون له، هم أناس ـ في أحسن حالات الظن بهم ـ متعلّمون يفرط منهم الزلل والخطل، وما يفرط منهم لا ينبغي أن يتحمل الدين مسؤوليته، فالذي يتحمل مسؤولية الدين هو شخص يعلن للناس جهاراً نهاراً أنه حجة الله وخليفته في الخلق، وقوله قول الدين، وفعله فعل الدين، هنا يمكن للإلحاد أن يواجه هذا الشخص، وإذا نقض عليه شيئا فهو ينقضه على الدين، وبذلك يصح اتهام الدين، إذا استطاع الالحاد من إثبات تهمه.
ان قدرة الدين على احتواء العلم وبيان الهدف والغاية الاستراتيجية من الخلق، هو من يعطيه مسند قيادة الحياة، ويجعل العلم في موقعه الحقيقي باعتباره وزير القائد، ولا يصلح ان يكون قائداً مادام ينقصه النظر الى الغاية من الوجود.
لقد كشف الدين قصور وعجز الذين يحاولون عبثا إعطاء القيادة ظاهرا للعلم وباطناً للفلسفة، وتبيّن عدم قدرتهم على الاستمرار في لعبة الدخول في متاهة التفاصيل لإشغال الناس وإلهائهم عن النظر الى الغاية. إن وظيفة العلم هي الكشف عن القوانين المنظمة لمسيرة الحياة، وهذه القوانين دالة على أن لها مقننا هادفاً تحاول النظرة الفلسفية المتوارية خلف لغة العلم التشكيك بهذا المقنن واتهامه بالتخريف والأسطورية؛ لأن العلم ـ بما يمتلك من قدرة ـ عجز عن الكشف عن مقنن هادف هو من خطط ودبر، وترك التنفيذ لمن دونه، اما الدين فقد أدى وظيفته بصورة واضحة من خلال إثباته أنه سابق للعلم في الإشارة إلى تلك القوانين التي اكتشفها العلم، وكذلك بيّن أن وظيفته هي قيادة الحياة إلى الغاية التي عجز العلم عن اكتشافها، وهذه الوظيفة لم تكلفه بيان القوانين والحديث عنها تفصيلا، بل يكفيه الإشارة إليها بالإجمال بما يتوافق مع وظيفته، ويترك التفصيل للعلم كي يكتشفه، بل ويقدم له كل التسهيلات والإمكانات التي تعينه على الذهاب بعيداً في حركة الكشف عن القوانين.
وقوف الدين مع العلم ودعمه وتحفيزه ليس أمراً دعائيا، بل هو واقع نشهده اليوم بأم العين، فالدين أعطى للعلم قيمته ومكانته، وبالمقابل كشف تهافت المؤسسة الدينية التي كلفت نفسها ما لا تطيق، وزاحمت العلم في ساحته وشكلت عائقاً بوجه تلك العقول الفذة التي قدمت للحياة الشيء الكثير، ولذا تجد الدين لا يتقاطع مع العلم ابداً، بل يتقاطع مع ما يحاول الإلحاد تسويقه على أنه قول الدين، وليس هو بذاك، وفي هذا الجانب أثبت الإلحاد عدم إنصافه، وانعدام الموضوعية لديه، وغياب صفة الإنصاف والموضوعية يهدمان ذلك الصرح الذي حاول الإلحاد إيهام الناس بتشييده، وهو صرح العلم والمعرفة، إذ لا قيمة للعلم إذا لم يحقق الإنصاف والموضوعية، بينما نشهد هاتين الصفتين واقفتين بشموخ في منهج الدين الذي يمثله رجل هذا الزمان الممثل للدين بالدليل والبرهان: أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي(ع)، وكتابه: وهم الإلحاد خير دليل على ذلك.