حجية ظن المجتهد – الوحيد البهبهاني نموذجاً / الدكتور علاء السالم

كثيرة هي النواهي الشرعية عن العمل بالظن في دين الله على مستوى الكتاب والسنة على حد سواء، ولكن يصر المجتهدون – السنة والشيعة – على عدم شمولها لعملهم القاضي باستنباط الأحكام الشرعية بظنونهم.

أما علماء السنة، فرأيهم واضح بجواز العمل بالظنون التي تنتهي إليها آراء المجتهدين عندهم، فبرغم اعترافهم بأنّ الاجتهاد لا يفيد إلا الظن (انظر: المحصول: ج6 ص11)، إلا أنهم في ذات الوقت يقولون بضرورة العمل على وفق تلك الظنون، بل أفرط بعضهم ليزعم صحة وصواب كل الاجتهادات الظنية وإن تضاربت فيما بينها.

 

وأما علماء الشيعة فقد كان الكثير من قدمائهم رحمهم الله لا يجوزون العمل إلا بالعلم (انظر: قول السيد المرتضى في الذريعة: ج2 ص682، والمحقق الحلي في: معارج الأصول: ص188)، وتبعهم على ذلك أغلب علماء الشيعة الأخباريين فيما بعد حيث قالوا بعدم حجية الظن مطلقاً.

ينقل المحقق النراقي جانباً من القضية في عوائده، فيقول: ((لا خلاف بين علماء الفرقة المحقة في أنّ الأصل الابتدائي عدم حجية الظن مطلقاً، ولا يجوز التمسك بظن ما لم يكن برهان قطعي ودليل علمي على حجيته. إنما الخلاف في أنه هل يوجد مزيل لذلك الأصل أم لا ؟ .. فذهب جمع من الأخباريين إلى أنه لم يخرج ظن من تحت ذلك الأصل مطلقاً، وليس الظن حجة أصلاً، ولا يجوز العمل إلا بالأدلة القطعية .. وذهب جمع من قدماء المجتهدين أيضاً إلى عدم حجية الظن، وانحصار الحجة في العلم. ومذهب أكثر المجتهدين، بل جميع المتأخرين منهم، وجود المخرج عن الأصل الابتدائي، وعدم انحصار الحجة في العلم ..)) عوائد الأيام: ص357.

وهو بهذا – كغيره من الأصوليين الشيعة – يريد تصوير حجية ظن المجتهد وإخراجه عن النهي القرآني والروائي المنصب على العمل بغير العلم، يقول: (.. فالمراد أن ظن المجتهد من حيث إنه مجتهد، أي ظنه المستند إلى اجتهاده، حجة .. فمعنى حجية ظن المجتهد: حجية ظن حاصل من دليل ثبت حجيته شرعاً) المصدر المتقدم.

والأنكى من ذلك إفراط فريق من المجتهدين بزعم حجية مطلق الظن في زمن غيبة الإمام (عليه السلام) كالميرزا القمي في قوانينه (انظر: قوانين الأصول: ص440) ومن تبعه، وهو المعبر عنه في كلماتهم بـ “دليل الانسداد”، وتصويره باختصار: إنّ الأحكام ثابتة في عهدة المكلفين زمن الغيبة، ولا طريق لتحصيل العلم بها، فلا يبقى إلا الظن، ولما كان هو الطريق الوحيد للوصول إلى الأحكام صار مطلقه حجة، ومنه ظن المجتهد.

وهي دعوى – كما ترى – تتصادم بوضوح مع كتاب الله وروايات أهل البيت (عليهم السلام) المستفيضة، بل حتى ما عليه جمهور المجتهدين الشيعة، لذا رفضوها واستغربوا صدور ذلك من القمي، ثم صاروا بصدد توجيه خروج عملهم القائم على الظن بالحكم وعدم شمول الآيات والروايات له.

قالوا: إنّ الشارع المقدس وإن كان قد نهى عن العمل بالظن بكثرة أكيدة، ولكنه في ذات الوقت اعتبر بعض الظنون حجة ومنه ظن المجتهد، فلنسمع إلى دليلهم أو بعض ما قالوه في ذلك. فبعد اعترافه بالنهي عن العمل بالظن، قال كبير المجتهدين الشيخ الوحيد البهبهاني:

((وخرج من جميع ذلك ظن المجتهد بالإجماع وقضاء الضرورة، إذ المسلمون أجمعوا على أن من استفرغ وسعه في درك الحكم الشرعي، وراعى عند ذلك جميع ما له دخل في استحكام المدرك وتشييده وتسديده، وحصل ما هو أحرى يكون ذلك حجة عليه، والضرورة قاضية بأنه لو كان ظن حجة فهذا حجة، وكذا لو كان لا بد من العمل بالظن جاز التعويل على ذلك. وأيضاً بقاء التكليف إلى يوم القيامة يقيني، وسد باب العلم معلوم كما عرفت. ومن استفرغ وسعه في جميع ما له دخل في الوثوق والمتانة، وحصّل ما هو أقرب لا يكلفه الله أزيد من ذلك يقيناً، لقوله تعالى: “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وقوله: “وما جعل عليكم في الدين من حرج”، وما ورد من أنه تعالى لا يكلف ما لا يطاق. ولعل القطع بحجية مثله – فيما نحن فيه – يظهر من تتبع الأخبار والأحكام أيضاً.

وأيضاً العقل حاكم بحجيته حينئذ قطعاً. وأيضاً جميع العلوم والصنائع المحتاج إليها في انتظام المعاد والمعاش يكون الحال فيها كما ذكرنا بلا شبهة، والعلة التي فيها جارية فيما نحن فيه أيضاً قطعاً.

وبالجملة، فنأخذ قياساً هكذا: هذا ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي، وكل ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي فهو حكم الله يقيناً في حقي، فالصغرى يقينية، وكذا الكبرى، فالنتيجة قطعية يقينية. وبالجملة، خروج ظن المجتهد مما ذكر قطعي بلا تأمل )) الفوائد الحائرية: ص137.

هو قال ذلك في تصديه لعلماء الشيعة الأخباريين، إذ يعتبره الكثير اليوم كاسر شوكة الأخباريين ومن أرجع الاجتهاد الأصولي إلى واقع الشيعة في القرن الثاني عشر، ولكن أقول: بعد التنزل عن مناقشته في دليلية الإجماع، كيف استدل به على حجية ظن المجتهدين والحال أنه نفسه كتب هذا الكلام ليرد به قول عدد لا يستهان به من علماء الشيعة ممن يرفض حجية الظن في دين الله، أعني الأخباريين ؟! وإذا كان يراهم أنصاف متعلمين (وحاشاهم) ولا تضر مخالفتهم بالإجماع، فليس بوسعه إلا الإقرار بفضل الحر العاملي رحمه الله مثلاً، وهذا قوله تعليقاً عن قول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لأخيه علي: (ليس لك أن تتكلم بما شئت لأن الله عز وجل يقول: “ولا تقف ما ليس لك به علم”).

قال الحر: ((أقول: وتقدم ما يدل على ذلك، ويأتي ما يدل عليه وعلى النهي عن العمل بالظن، والمراد من العلم “في الآية” ما يشمل العادي وبابه واسع وهو من جملة اليقينيات ولا يطلق عليه الظن لغة ولا عرفاً ولا شرعاً، والدلالات الظنية غير معتبرة إلا مع القرائن الواضحة المفيدة للعلم العادي)) وسائل الشيعة (آل البيت): ج27 ص30. وهو واضح في رفضه مطلق الظن، كما هو قول الأخباريين المعروف.

كما أننا سمعنا قول النراقي المتقدم إذ يقول: (وذهب جمع من قدماء المجتهدين أيضاً إلى عدم حجية الظن وانحصار الحجة في العلم)، ومنهم كما أوضحنا السيد المرتضى والمحقق الحلي وغيرهم، وبعد مخالفة هؤلاء كيف انعقد الإجماع بنظر البهبهاني على حجية ظنون المجتهدين ؟!!

وأما ما زعمه من اقتضاء الضرورة حجية ظن المجتهد ؟؟ فلا أعرف أي ضرورة يقصد ؟؟ وإذا كانت هي غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) التي امتد بها الزمان بسبب تقصير الأمة ورفضها له، فالحل لا يكون في اعتقاد ملْء فراغ علم المعصوم بظنون غيره، ولا أن يكون غير الجائز في دين الله جائزاً، واللازم إذن عرض الدليل المخصص لعمومات النهي عن العمل بالظن بآية أو رواية تُخرج ظنون المجتهدين، وما قاله لا يعدو أن يكون مجرد استحسان مرفوض قطعاً.

وأما حجية ظن المجتهد بادعاء سعيه وتحصيل ما هو أقرب لحكم الله، فالمفروض به أولاً إثبات تكليف الله أو خلفائه (عليهم السلام) للمجتهدين بتلك المهمة أصلاً ليؤخذ بظنه ويعذر عن تقصيره، وأما أن يتبرع المجتهدون من أنفسهم ثم يصوروا للناس أنّ هذا قصارى ما يستطيعون فخذوا بظننا وهو حجة عليكم ولا تشمله الآيات، فهي مجرد دعوى بلا دليل، وهذا الوجه مجرد استحسان لا قيمة له أيضاً.

وأما استدلاله بالعقل، فإن كان يقصد بها مثل الاستحسانات المتقدمة، فلا عبرة بها، وإن كان يقصد حكم العقل بحجية ظنون المجتهدين لأجل رفع الحرج والاضطرار لأنهم لا يستطيعون أن يتوصلوا إلى أكثر من الظن، فالجواب: إنهم من ألجأوا أنفسهم لذلك بلا تكليف من أحد، وعلى من يدعي تكليفهم إبراز دليله، لا أن يجعل نفس الاضطرار موجباً لحكم العقل بقبول ظنونهم ؟؟

وإن كان يقصد شيئاً آخر فعهدة بيانه عليه، فهو اكتفى بادعاء ذلك ولم يبيِّن وجه دلالة العقل على حجية ظنون المجتهدين كيف تكون بأكثر مما صورناه.

يبقى أنه قد يقصد بحكم العقل القياس التالي الذي ذكره في نهاية عبارته المتقدمة: (هذا ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي، وكل ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي فهو حكم الله يقيناً في حقي، فالصغرى يقينية، وكذا الكبرى).

وهو قول في غاية الغرابة، فبأي دليل تيقن بكبرى القياس، أعني (كل ما أدى إليه اجتهادي واستفراغ وسعي فهو حكم الله يقيناً في حقي) ؟! وادعاؤه هذا لا يتم إلا وفق “التصويب” الذي قال به بعض العامة، والذي يفترض أنّ المجتهدين مصيبون لحكم الله دائماً رغم الاختلاف، وقد رفضه الشيعة وأقروا بالتخطئة، فقد يصيب المجتهد حكم الله وقد يخطئه ولكنه معذور بنظرهم، هذا أقصى ما زعمه أصوليو الشيعة ومجتهدوهم.

ثم إننا نلاحظ عادة تبدل رأي المجتهد الواحد في المسألة الواحدة، فأي رأي منها هي حكم الله اليقيني في حقه ؟؟ وما بال يقينه بوجوب صلاة الصبح مثلاً لا يتبدل في حين أن اجتهاداته تتبدل، لولا أن ما توصل إليه باجتهاده حكم ظني !!

وأما قياس العمل بظن المجتهد في الدين بالظنون التي يعمل على وفقها الإنسان في الأمور المعاشية، فهو قياس في غير محله، فالدين ليس مهنة يمكن العمل فيها بالظنون بحسب الطبع البشري، بل الأمر لله سبحانه وقد نصب خلفاءه لتبيين أحكام دينه، وعلى المكلف الطاعة فقط، هذا هو الأساس الذي يؤمن به الموحدون، واقتراح إضافة ظنون المجتهدين والحكم بحجيتها بحاجة إلى نص من صاحب الدين، لا بتصوير يشبَّه به المجتهد دين الله بطبع الناس الدنيوي. على أن خسارة الإنسان في الأخذ بالظن في أمر حياتي لو تبين الخلاف لا يعدو أن يكون أمراً دنيوياً يسيراً ليس إلا، في حين أنّ خسارة الإنسان في حالة تعبده بغير حكم الله لا تكاد تجبر بل ربما كانت أبدية.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الحكم حكمان: حكم الله عز وجل، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية) الكافي: ج7 ص407.

ويبقى عمدة ما ادعاه البهبهاني على حجية ظن المجتهد هو قوله: (لعل القطع بحجية مثله – فيما نحن فيه – يظهر من تتبع الأخبار والأحكام أيضاً)، ولكنه لم يبرز لنا خبراً واحداً يوضح ذلك.