كيف تسلل الاجتهاد الظني إلى الفقه الشيعي / د. علاء السالم

لم يكن معروفاً بين شيعة آل محمد (عليهم السلام) الاجتهاد في دين الله بالمعنى المطروح اليوم، كيف وبينهم أئمتهم الطاهرون الذين أمر الله بطاعتهم والأخذ عنهم والرد إليهم،

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) النساء: 59.

وقال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء: 83.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في قول الله عز وجل: “ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم“، قال: (نحن أولو الأمر الذين أمر الله عز وجل بالرد إلينا) مستدرك الوسائل: ج17 ص271.

فقد كان شيعة أهل البيت يأخذون دينهم وجميع أحكامهم من أئمة الهدى (عليهم السلام)، ولم يكونوا بحاجة بعد هذا إلى أن يتبرع بعضهم لبذل الوسع لتحصيل الظن بحكم الله – كما هي نتيجة الاجتهاد المعمول به، وباعترافهم – بعد وجود طريق يوصلهم إلى أحكام الله القطعية والواقعية.

وقد امتد حالهم على هذا النهج حتى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام). نعم، حاول البعض إرجاع بذور الاجتهاد الذي يعملون به الآن إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) بدعوى أنهم صلوات الله عليهم كانوا يأمرون بعض شيعتهم بإفتاء الناس وبيان الحلال والحرام لهم، كقول الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: (اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك) مستدرك الوسائل: ج17 ص315.

ولكن سرعان ما يتبدد هذا الادعاء بعد أن نعرف الفرق الشاسع والكبير بين الإفتاء الذي كان يقصده الإمام وبين الاجتهاد الذي يعمل به المجتهدون اليوم، فالإمام الباقر (عليه السلام) بقوله المتقدم لا يقصد أكثر من أن ينقل أبان لبقية شيعته ما عرفه عن آل محمد (عليهم السلام) باعتبار أنه – رحمه الله – من خواصهم وعرف منهم ما لم يعرفه غيره، فيكون واسطة في إيصال أحكام آل محمد (عليهم السلام) إلى شيعتهم، وراوٍ لحديثهم.

وبتوضيح أكثر: إنّ أبان ومن كان على شاكلته كزرارة وزكريا بن آدم وغيرهم أذِن لهم الأئمة (عليهم السلام) في الإفتاء، بمعنى استظهار الأحكام الشرعية مما بين أيديهم من كلام الطاهرين ونقله إلى بقية الشيعة، وهذا مما لا إشكال فيه بعد إذنهم صلوات الله عليهم فيه، وتحديدهم مصدر التشريع الحق ومعالم حركة المفتي التي لا يتخطاها مهتدٍ، ولكن أين هذا من الإفتاء والتشريع وفق الأدوات الشاملة للعقل والإجماع، المعمول به عند مجتهدي العامة والشيعة على حدٍ سواء، فانّ من الواضح أنّ المجتهد لا يعطي باجتهاده حكماً إلا بعد إعمال رأيه وتحكيمه للقواعد العقلية المسبقة التي أسسها على ضوء العلوم المنطقية والفلسفية واللغوية والملازمات العقلية وما شابه مما اشترطوا تحلي المجتهد به ليتوفق إلى فضيلة الاجتهاد والفتوى في الدين !!

والذي ينبئك عن هذا هو ما ذكره آل محمد صلوات ربي عليهم في تحديد السبب الذي من أجله أرجعوا شيعتهم إلى أبان ومن هم على شاكلته، فعن سليم بن أبي حية، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فلما أردت أن أفارقه ودّعته وقلت: أحب أن تزودني، فقال: (ائت أبان بن تغلب، فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني) المصدر السابق.

ولذا كانت الرواية عنهم (عليهم السلام) أحد مقاييس تفاضل الشيعة فيما بينهم، فعن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (اعرفوا منازل الناس منا على قدر رواياتهم عنا) بحار الأنوار: ج2 ص150.

وفي ذات الوقت كان أئمة الهدى (عليهم السلام) يأمرون بعض أصحابهم بكتابة ما عرفوه من أحكام الله ومعارف حقة مما سمعوه منهم:

المفضل بن عمر، قال: قال له أبو عبد الله (عليه السلام): (اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فورِّث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه إلا بكتبهم) المصدر المتقدم.

حتى إنّ كتاباً ليونس بن عبد الرحمن وصل يوماً بيد الإمام العسكري (عليه السلام) فدعا له، عن داود بن القاسم الجعفري، قال: (عرضت على أبي محمد صاحب العسكر (عليه السلام) كتاب يوم وليلة ليونس، فقال لي: تصنيف من هذا ؟ فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين، فقال: أعطاه الله بكل حرف نوراً يوم القيامة) المصدر المتقدم.

وكان ذلك السبيل المرضي أحد أبواب نشر علوم آل محمد (عليهم السلام) إلى شيعتهم.

وأما حال الشيعة في زمن الغيبة الصغرى (260 – 329 هـ)، فهو الآخر لا يختلف عن زمان حضور المعصوم، حيث كان سفير الإمام المهدي (عليه السلام) هو المتكفل للإجابة على الأسئلة والاستفتاءات الواردة إليه، وأجوبته لم تكن باجتهاده العقلي ونظره المستند إليه أبداً، وإنما بنقله أجوبة الإمام (عليه السلام) إلى السائلين، يعرف ذلك من طالع التوقيعات الشريفة الخارجة منه (عليه السلام) إلى الناس على أيدي السفراء الأربعة رحمهم الله.

يقول الشيخ علي خازم: (وقد استمر تصنيف الفقه على أساس الحديث وتوزيعه بحسب العناوين الفقهية حتى انتهاء عصر الغيبة الصغرى. وشهدت مرحلة الغيبة الصغرى نوعاً جديداً من الكتابة الفقهية هي “التوقيعات المباركة”، والتوقيع هو جواب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف على رسالة استفتائية) مدخل إلى علم الفقه عند المسلمين الشيعة: ص32.

ثم كانت الغيبة الكبرى، وجاء دور فقهاء الشيعة الأوائل، وكانت سيرتهم في بيان الأحكام لبقية الشيعة يعتمد على نقل ما عرفوه من روايات آل محمد (عليهم السلام)، ولم يجتهدوا في بيان الأحكام بمعناه الحالي مطلقاً، يشهد لذلك ما سطروه في موسوعاتهم كفروع الكافي للكليني (ت: 329 هـ)، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ت: 381 هـ)، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي (ت: 460 هـ).

قال السيد الخميني رحمه الله وفق ما نقله مقرر بحثه الأصولي الشيخ جعفر السبحاني: (وقد كان الإفتاء عند السؤال شفاهاً بنفس نقل الرواية، وهو غير ما نحن فيه. وقد كانت السيرة على هذا المنوال إلى زمن الصدوقين، إلى أن تطور الأمر وصار تدوين الفتاوى بنقل متون الروايات بحذف إسنادها دارجاً من غير تجاوز عن حدود ما وردت فيه الروايات ..) تهذيب الأصول: ج3 ص204.

ويقول الشيخ علي خازم: (وقد استمر الفقه “الإفتاء” على هذه الطريقة إلى زمان السيد المرتضى “المتوفى 436 ه‍” والشيخ الطوسي “المتوفى 460 ه‍”) مدخل إلى علم الفقه عند المسلمين الشيعة: ص32.

وأما رأي كبار علماء الشيعة الأوائل في الاجتهاد بأدواته المتداولة بين المجتهدين اليوم، فهذا نموذج منه:

1- الشيخ الصدوق يقول في كلام له: (إن موسى مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك .. فإذا لم يصلح موسى للاختيار – مع فضله ومحله – فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام، وكيف يصلحون لاستنباط الإحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة) علل الشرائع: ج1 ص62.

2- السيد المرتضى، يقول: (وثبت أن ما صح فساده أو صحته في أحكام الشريعة لا يجوز تغير أحواله باجتهاد أو استفتاء مجتهد، لأن الدليل قد دل على فساد الاجتهاد الذي يعنونه في الشريعة) الانتصار: ص246.

وقال أيضاً: (ولسنا نعيب أصحاب الاجتهاد بالاختلاف في التكليف على ظن المسائل .. وإنما عبناهم بالاجتهاد والقياس في الشريعة، لأنه لا دليل عليهما ولا طريق إليهما) رسائل المرتضى: ج4 ص50.

وكتب في الذريعة يذم الاجتهاد قائلاً: (إن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد).

3- الشيخ الطوسي، قال في كتاب الخلاف: (مسألة 7: إذا قضى الحاكم بحكم فأخطأ فيه، ثم بان أنه أخطأ، أو بان أن حاكماً كان قبله قد أخطأ فيما حكم به وجب نقضه، ولا يجوز الإقرار عليه بحال .. دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً فقد ثبت عندنا أن الحق في واحد، وأن القول بالقياس والاجتهاد باطل، فإذا ثبت ذلك فكل من قال بهذا قال بما قلناه، وإنما خالف في ذلك من جوز الاجتهاد، وروي عن النبي (عليه السلام) أنه قال: “من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد”) الخلاف: ج6 ص215.

وقال في المبسوط معللاً المسألة: (ولأن الاجتهاد عندنا باطل، والحق في واحد لا يسوغ خلافه) المبسوط: ج7 ص277.

وقال في كتاب العدة – كما نقله عنه السيد محمد باقر الصدر -: (إما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالها) دروس في علم الأصول: ج1 ص48.

4- ابن إدريس الحلي (ت: 598 هـ)، ففي مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عدداً من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلاً: (ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا) السرائر: ج2 ص170.

هذا حال الاجتهاد إلى أواخر القرن السادس الهجري، وبرغم تأليف فقهاء الشيعة الأوائل كتباً في الفقه بما عرفوه من روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ككتاب (الهداية) و(المقنع) للشيخ الصدوق، وكتاب (المقنعة) للشيخ المفيد (ت: 413 هـ)، وكتاب (الخلاف) و(المبسوط) للشيخ الطوسي، وكتاب (الانتصار) للمرتضى وكذا (رسائله) التي ضمّت مسائل فقهية، و(السرائر) لابن إدريس، وغيرهم من الفقهاء المتقدمين، إلا أننا في نفس الوقت لا نجد لبحث الاجتهاد – من حيث الجواز فضلاً عن الوجوب الذي يدعيه المجتهدون اليوم – عيناً ولا أثراً في كتبهم.

ثم انتقل فقهاء الشيعة إلى طور آخر، وهو ما يلخصه الشيخ واعظ زاده الخراساني في تصديره لكتاب الرسائل العشر للشيخ الطوسي، يقول عن حقبة الشيخ الطوسي: (وفي نفس الوقت أو بعده بقليل نرى تقدماً ملحوظاً نحو الاجتهاد بشجاعة بالغة وسعي مشكور وجهد مترقب، ودراية كافية أبرزها رجال ذلك العصر ومن جملتهم بل في طليعتهم مترجمنا الشيخ الطوسي رضي الله عنه وعنهم، وهو أنهم خرجوا عن حدود الفقه المنصوص، واعتمدوا على أساس القواعد الكلية والنصوص العامة من الكتاب والسنة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية، والأسس المحررة في علم أصول الفقه، فخاضوا في الفروع المستحدثة، والحاجيات اليومية التي تمر على الناس مما لم يرد في النصوص، ولم يعنون في فقه الإمامية، بل ربما لم يتفق وجوده، واستنبطوا أحكامها ولم يتحاشوا عن إبداء النظر فيها .. وهذا اللون من الفقه هو غاية الاجتهاد ونهاية المطاف، ومع فقده يعتبر الاجتهاد ناقصاً مبتوراً عاجزاً عن الوفاء بحاجات الناس. وفي الحقيقة يعتبر هذا التحول الجديد بداية التكامل في الاجتهاد، وبعبارة أصح قيام الاجتهاد بمعناه الحقيقي بين الشيعة، في الوقت الذي كان الاجتهاد والاستنباط من هذا الطراز سائداً عند أهل السنة) مقدمة الرسائل العشر: ص42.

ونحن إذ نوافقه في حدوث هذه التحول الخطير في الفقه الشيعي ودخول الاجتهاد بأدواته العقلية في الموارد الخالية من النصوص وإبداء النظر فيها، ولكنا لا نقبل عدّه الشيخ الطوسي من رجال هذا التحول؛ بعد أن عرفنا رأيه في الاجتهاد صريحاً وموقفه الرافض له وخلوّ كتبه منه، كما هو موقف غيره من العلماء الأوائل. نعم، قال البعض أنّ ابن الجنيد الاسكافي أحد علماء الشيعة (ت: 381 هـ) أول من فتح باب الاجتهاد في الشريعة من الشيعة، والذي أدى بالشيخ المفيد أن ينقض عليه بكتاب أسماه (النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي)، ولكن مع هذا كان القول الرسمي الشيعي إلى نهاية القرن السادس الهجري هو رفض الاجتهاد والقول ببطلانه، كما تقدم.

يقول السيد مرتضى العسكري عن تاريخ الاجتهاد الشيعي: (وقد شاع هذا الاصطلاح لدى علماء مدرسة أهل البيت بعد القرن الخامس كما ورد في كتاب مبادئ الأصول للعلامة الحلي “ت: 726 ه‍” في الفصل الثاني عشر، البحث الأول في الاجتهاد ما ملخصه: “الاجتهاد: هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية، على وجه لا زيادة فيه) معالم المدرستين: ج2 ص24.

إنّ تحديد بدء نفوذ الاجتهاد بأدواته المتداولة اليوم إلى الفقه الشيعي بنحو قطعي بالعلامة الحلي صحيح إلى حد كبير، ولكنه من رجال (القرن السابع – الثامن الهجري) كما هو واضح، كما أنّ النفوذ في بدايته كان عبر بحوث أصول الفقه، فكتاب “مبادئ الأصول” كما هو “معراج الأصول” للمحقق الحلي (ت: 676 هـ) كتب أصولية وقد تطرقت للاجتهاد من حيث بيان المعنى وبعض البحوث الأخرى المرتبطة به كمسألة إطلاق الاجتهاد وتجزئه، وما شابهها.

ثم إنّ الكتب الفقهية للمحق الحلي كشرائع الإسلام والمعتبر والمختصر النافع خلت من ذكر الاجتهاد الأصولي، كما هو حال الكتب الأخرى التي كانت قريبة من ذلك الوقت، مثل: “بشرى المحققين” لأحمد بن جعفر بن طاووس (ت: 673 هـ)، و”الجامع للشرائع” ليحيى بن سعيد الحلي (ت: 689 هـ)، و”كشف الرموز” للفاضل الآبي.

بينما كان الاجتهاد قد أخذ مسيره إلى كتب العلامة الحلي الفقهية، لا بالنحو الذي نراه اليوم وإنما عبر إشارات في طيات بحوث فقهية متوزعة كبحث القضاء والصلاة، وإليكم المثال التالي:  

يذكر الشيخ الطوسي في كتابه “المبسوط” مسألة في القضاء هكذا:

(القضاء لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم، والعدالة، والكمال. وعند قوم بدل كونه عالماً أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا يكون عالماً حتى يكون عارفاً بالكتاب والسنة والإجماع، والاختلاف ولسان العرب، وعندهم والقياس) المبسوط: ج8 ص99.

ولكن نرى العلامة الحلي يطرحها بالنحو التالي: (خاتمة: شرائط الاجتهاد المبيحة للقضاء والإفتاء في العلم، معرفة تسعة أشياء: الكتاب، والسنة، والإجماع، والخلاف، وأدلة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرهما، ولسان العرب، وأصول العقائد، وأصول الفقه، وشرائط البرهان) قواعد الأحكام: ج3 ص423.

فالشيخ الطوسي اعتبر العلم في القاضي وذكر قولاً لأهل العامة يرى اشتراط الاجتهاد فيه بدل العلم، ولكن العلامة الحلي اعتمد الخيار السني وعكس الموضوع وجعل العلم من شروط المجتهد.

وحيث إنّ الكثير ممن تأخر عن العلّامة قام بشرح كتبه، فصار الكثير ممن تأخر عنه يذكر الاجتهاد في المواضع المتفرقة التي ذكرها العلّامة، ولكن إلى ذلك الحين (أي أواخر القرن الثامن وطيلة القرن التاسع الهجري) لم يحدد للبحث في الاجتهاد الأصولي باباً فقهيا ًخاصاً به، ومن يراجع الكتاب الفقهية التالية يجد ما أخبرته به:

“إيضاح الفوائد في حل مشكلات القواعد” لابن العلامة “فخر المحققين” (ت: 771 هـ). و”ذكرى الشيعة” و”الدروس الشرعية” و”غاية المراد في شرح نكت الإرشاد” وغيرها لمحمد بن مكي “الشهيد الأول” (ت: 786 هـ). و”التنقيح الرائع في شرح الشرائع” للمقداد السيوري (ت: 826 هـ). و”المهذب البارع إلى شرح النافع” لابن فهد الحلي (ت: 841 هـ).

ثم كان القرن العاشر الهجري، وفي هذه المرحلة يمكن قراءة ما كتبه: الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (ت: 940 هـ) في كتابه “جامع المقاصد” ورسائله أيضاً، والشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي “الشهيد الثاني” (ت: 966 هـ) في “مسالك الإفهام في شرح شرائع الإسلام” و”الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية” و”روض الجنان”، والمقدس الأردبيلي (ت: 993 هـ) في “زبدة البيان” و”مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان”.

وهذا نص المحقق الكركي، قال عن الصلاة: (ثم إن المكلف بها الآن من الرعية صنفان: مجتهد وفرضه الأخذ بالاستدلال على كل فعل من أفعالها، ومقلد ويكفيه الأخذ عن المجتهد ولو بالواسطة أو بوسائط مع عدالة الجميع) رسائل الكركي: ص174.

ولم يختلف كثيراً حال القرن الحادي عشر كما نطالع في “مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام” للسيد محمد بن علي العاملي (ت: 1011 هـ)، و”الحبل المتين” و”زبدة الأحكام” لمحمد بهاء الدين (ت: 1030 هـ).

ففي كتب هذه الحقبة كان يذكر الاجتهاد الأصولي وبصورة ربما أوسع مما سبقها وتحديداً من قبل المحقق الكركي والأردبيلي، ولكن مع هذا لم يُفرَد للاجتهاد وكذلك التقليد باباً فقهياً خاصاً به كما هو الحاصل اليوم، وكان يذكر كبحث أصولي فقط، كما في كتاب “معالم الدين وملاذ المجتهدين” للحسن ابن الشهيد الثاني (ت: 1011 ه)، و”زبدة الأصول” للبهائي، و”الوافية” للفاضل التوني (ت: 1071 هـ)، إضافة إلى ذكره في الكتب الفقهية في مواضع متفرقة، كما أشرنا.

ولو استثنينا بعض كبار علماء الشيعة في القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجري ممن عرفوا بالأخباريين وأردنا أن نستمر بطرح أهم مصادر الفقه الشيعي لنرى موضع الاجتهاد فيها، لوجدنا حالها في القرن الثاني عشر كحالها فيما سبق من الاكتفاء بطرح الاجتهاد ورفيقه “التقليد” في الكتب الأصولية، وأما الفقهية فإنّ الاجتهاد وإن كان قد عاد بقوة إلى الساحة الفقهية الشيعية بعد كسر شوكة الأخباريين – على حد تعبير البعض – من قبل كبير المجتهدين الشيخ محمد باقر المعروف بالوحيد البهبهاني (ت: 1206 هـ)، وكثرة التأليف الذي حصل في علم أصول الفقه، ولكن برغم ذلك لم يفرد للاجتهاد وصاحبه بحثاً مستقلاً في كتب الفقه رغم اعترافهم بالاجتهاد الأصولي.

وبعد البهبهاني كان دور تلاميذه في القرن الثالث عشر الهجري، ومنهم: الشيخ مهدي النراقي (ت: 1209 هـ) صاحب “معتمد الشيعة”، والسيد جواد العاملي (ت: 1226 هـ) صاحب “مفتاح الكرامة”، والشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: 1227 هـ) صاحب “كشف الغطاء”، والسيد علي الطباطبائي (ت: 1231 هـ) صاحب “رياض المسائل”، والسيد محمد بن علي المجاهد (ت: 1243 هـ) صاحب “المناهل في الفقه”، والشيخ أحمد النراقي (ت: 1245 هـ) صاحب “مستند الشيعة”، والشيخ محمد حسن النجفي (ت: 1266 هـ) صاحب “جواهر الكلام”.

ومن طالع هذه الكتب الفقهية الاستدلالية يجدها تبتدئ بكتاب الطهارة كذلك، وليس هناك باباً مستقلاً فيها للاجتهاد والتقليد. نعم، كان موجوداً في الكتب الأصولية أيضاً والتي كان على رأسها “فرائد الأصول” للشيخ مرتضى الأنصاري (ت: 1281 هـ) الذي يدرس في الحوزات العلمية إلى يوم الناس هذا. وللشيخ الأنصاري كتب فقهية عديدة لم نر فيها باباً مستقلاً للاجتهاد وصاحبه أيضاً.

وقد أحدث الشيخ الأنصاري أبحاثاً عقلية في أصول الفقه، وكانت مهمة بنظر المجتهدين ولها تأثير مباشر على الحكم الفقهي بتشريعات المجتهدين، منها: ما يتعلق بالاستصحاب الكلي والتعليقي وبقاء الموضوع في المستصحب، والأصل المثبت، وتقدم الأصل السببي على المسببي، ودوران الأمر بين التمسك بالعام أو استصحاب حكم المخصص. (انظر: تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره للشيخ جعفر السبحاني: ص435).

وأكمل من بعده – على ذات النهج العقلي المفرط – في القرن الرابع عشر الهجري، تلميذه الشيخ محمد كاظم الخراساني (ت: 1329 هـ) صاحب كتاب “كفاية الأصول” الذي يُدَّرس أيضاً في الحوزات اليوم، ويعتبره الكثير من المجتهدين متناً يلقون عليه محاضراتهم الأصولية في بحوث الخارج.

وكان من الفقهاء الأصوليين في تلك الحقبة أيضاً: الميرزا المجدد حسن الشيرازي (1312 هـ)، والشيخ محمد رضا الهمداني (ت: 1322 هـ) صاحب “مصباح الفقيه”، وحتى ذلك الحين لا زال موضوع الاجتهاد على حاله المتقدم الذي أوضحناه.

وأما تلميذ الشيخ الأنصاري الآخر، فهو السيد محمد كاظم اليزدي (ت: 1337 هـ)، الذي افتتح عهد الكتب الفقهية على طريقة الرسائل العملية الفقهية المعروفة اليوم والتي يبين فيها المجتهدون أحكامهم إلى المقلدين، كما أنه أول من صدّر رسالته الموسومة بـ”العروة الوثقى” بوجوب “الاجتهاد والتقليد”، جاعلاً إياها مسألة رقم (1) في الفقه الشيعي.

يقول الشيخ علي خازم عند ذكره الكتب الفقهية وأبوابها: (الكتب الفقهية: العبادات ١ -كتاب الاجتهاد والتقليد … وهذا الكتاب لم يلحق بالفقه إلا في العصور الأخيرة فيما كان يبحث عنه في أصول الفقه) مدخل إلى علم الفقه عند المسلمين الشيعة: ص53.

وهذا ما قاله اليزدي: (المسألة 1: يجب على كل مكلف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً) العروة الوثقى: ج1 ص11.

ثم احتذى حذوه من جاء بعده، وصارت رسالة اليزدي الفقهية مدار اجتهاد وتعليقات المجتهدين من بعده وإلى يوم الناس هذا، وهذه بعض أسماء مراجع التقليد المعلقين عليها:

  • الشيخ حسين النائيني (ت: 1355 هـ) صاحب “فوائد الأصول” بقلم الكاظمي، و”أجود التقريرات” بقلم السيد الخوئي.
  • الشيخ ضياء الدين العراقي (ت: 1361 هـ) صاحب “بدائع الأفكار”، و”نهاية الأفكار” في الأصول.
  • الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت: 1361 هـ) صاحب “نهاية الدراية في شرح الكفاية”، و”الاجتهاد والتقليد والعدالة”.
  • السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت: 1365 هـ) صاحب “وسيلة النجاة”.
  • الشيخ محمد حسن كاشف الغطاء (ت: 1373 هـ).
  • السيد حسين البروجردي (ت: 1380 هـ).
  • السيد محسن الحكيم (ت: 1390 هـ).
  • السيد الخميني (ت: 1409 هـ).
  • السيد الخوئي (ت: 1413 هـ).
  • السيد الكَلبيكَاني (ت: 1414 هـ).

ومثلهم مراجع التقليد اليوم.

ثم لا يخفى أنّ وجوب الاجتهاد الذي ادعاه اليزدي في المسألة الأولى من رسالته العملية، قال عنه بعض من تلاه أنه وجوب بحكم العقل:

قال السيد الخوئي: (والصحيح أنه وجوب عقلي) كتاب الاجتهاد والتقليد: ص12، ومثله قال السيد الكلبيكاني (العروة الوثقى – التعليق: ص11)، وجعله السيد محسن الحكيم مردداً بين الوجوب العقلي والفطري، وهذا يعني أنّه وجوب خالٍ عن الدليل القرآني والروائي.

وكان ميزة الحقبة التي تلت اليزدي تتمتع بالتالي كما يقول الشيخ السبحاني (تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره: ص459):

1- إنّ الآراء التي سادت فيها بين المجتهدين كانت موروثة عن الوحيد البهبهاني والشيخ الأنصاري.

2- الاهتمام بالمسائل الأصولية بشكل غير مسبوق وتقسيمها إلى مباحث الألفاظ والمباحث العقلية.

3- ظهور التقريرات الفقهية والأصولية، أي أنّ الأستاذ يطرح ويدون احد تلاميذه بحوثه، وهي شبيهة بطريقة الأمالي عند المتقدمين (كأمالي المفيد والصدوق والطوسي) وإن كان الفرق بينها واضحاً، فإنّ أمالي العلماء المتقدمين كانت في روايات آل محمد (عليهم السلام) والكنوز المكتشفة منها، في حين أنّ تقريرات المجتهدين أخيراً  كان أغلبها في مباحث عقلية لم ينزل الله بها من سلطان.

4- ظهور الرسائل العملية واغلبها مستمدة من العروة الوثقى لليزدي.

هذه – باختصار – قصة تسلّل الاجتهاد الظني إلى الفقه الشيعي، والحمد لله رب العالمين.