لماذا الرجعة ؟
قبل أنْ نعرف لماذا الرجعة لابد أنْ نفهم أننا هنا في العالم الجسماني في الامتحان الثاني، والرجعة هي الامتحان الثالث. فالسؤال نفسه موجه لهذا الامتحان الذي نحن فيه؛ لماذا الحياة الجسمانية لماذا هذا الامتحان الثاني ونحن قد امتحنا في الذر وانتهى الأمر ؟
وجواب هذا السؤال هو ما قاله الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):
علل الشرائع: «حدثنا علي بن أحمد عن محمد بن أبي عبد الله عن محمد بن إسماعيل البرمكي قال حدثنا جعفر بن سليمان بن أيوب الخزاز قال حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) :لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل ؟
فقال (عليه السلام) : إن الله تبارك و تعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على بعض ورفع بعضها على بعض في الدنيا ورفع بعضها فوق بعض درجات في الآخرة وكفى بعضها ببعض وبعث إليهم رسله واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ليرغبهم بذلك في الخير ويزيدهم في الشر وليدلهم بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك أنهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من الفزع إلى ما ليس لهم بحق. ثم قال (عليه السلام) : يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى أحسن نظراً لعباده منهم لأنفسهم أ لا ترى أنك لا ترى فيهم إلا محباً للعلو على غيره حتى يكون منهم لمن قد نزع إلى دعوى الربوبية ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ومنهم من قد نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجمعهم يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون» [علل الشرائع – الصدوق: ج1 ص15 – 16].
الإمام الصادق (عليه السلام) بيَّن لماذا تكرار الامتحان في هذا العالم الجسماني.
أما لماذا تكرار الامتحان في عالم الرجعة على من محض الإيمان ومحض الكفر بالخصوص؟ فلأن كلا هذين الفريقين هو فريق استثنائي، فمن محض الإيمان كان عطاؤهم عظيماً وسيكون جزاؤهم أعظم، وبالتالي يكرر الامتحان عليهم ليعيدوا نفس النتيجة لكي يعلم بقية الخلق أن هؤلاء مستحقون لهذا الفضل العظيم الذي فضلهم الله به على بقية الخلق.
وأما من محض الكفر فكذا أن عذابهم عظيم، بحيث إنّ أهل النار يستجيرون من عذاب هؤلاء، ولذا كان الامتحان الثالث في الرجعة وليكرروا نفس النتيجة السلبية، ليعلم الخلق أنّ هؤلاء مستحقون لهذا العذاب العظيم.
وهنا قد يوجه إشكال بهذه الصورة: لماذا هذه الامتحانات، ما دامت نتيجة الذر ستتكرر وكل واحد سيكرر نتيجته، أين الحكمة من هكذا امتحان نتيجته معروفة مسبقاً؟!
والجواب: إنّ إعطاء الفرصة حقيقي وليس وهمياً، فالله سبحانه قد أعطى للخلق فرصة حقيقية لتغيير النتيجة إنْ كانت سيئة في الذر، ولكن لأن حقائقهم منكرة وخبيثة تكرر نفس النتيجة، أي أنّ الحكمة هي أنّ الله كريم رؤف رحيم، وهذه الفرصة الأخرى هي ظهور لفضله ولكرمه ورحمته سبحانه، إضافة إلى ما بيّنه الإمام الصادق )عليه السلام( في أن انزال الأرواح في هذا العالم الجسماني الضيق هو ليظهر لها ضعفها من خلال ضيقه وقيوده، وإضافة إلى ما بيّنته من علة الرجعة، وأيضاً هناك علة بيّنها الله سبحانه وتعالى هي أيضاً متعلقة برحمته وكرمه، وهي أنه يعلم أنهم سيطلبون فرصة ثانية وبالتالي قدّم لهم هذه الفرصة قبل أنْ يطلبوها، فمع هذا التكرار وهذا الكرم منه سبحانه تجدهم يطلبون في الآخرة أنْ يعاد امتحانهم، ويطلبون فرصة أخرى غير الفرص التي منحت لهم سابقاً: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر: 11].
المصدر: كتاب عقائد الإسلام – السيد أحمد الحسن (ع)