Subjects
-الإهداء
-المقدمة
-مدخل في معنى التأويل
-مبحث في جهتي المعرفة
-كيف يعرف الناس ربهم ؟؟؟
-من سبب المعرفة ؟؟؟
-لماذا هذه المعرفة ؟؟؟
-لسان أهل هذا الزمان
-الخلاصة
Text
إصدارات أنصار الإمام المهدي ع / العدد (163) قد جاء تأويله قراءة في السؤالين الأول والثاني من الجزء الأول من كتاب المتشابهات بقلم زكي الأنصاري الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن ع يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي : www.almahdyoon.org قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ [الأعراف: 53]. قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 39]. -الإهداء إلى عزم الله الذي من عرفه من الأنبياء (عليهم السلام) كان من أولي العزم .. إلى قبلة الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) وسليل دوحة الكرم .. إلى واهب المجد والطلعة والظهور بإذن بارئ النسم .. إلى الحبيب ابن الحبيب نسل الأحبة .. إلى من تاه بنوره ذوي العقول والحلم .. إلى سيدي ومولاي الذي طهرني من ظلمة الوهم .. أحمد الموعود (عليه السلام) ابن سيد الأمم. -المقدمة قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾([1]) ، ورد عن علي بن إبراهيم في هذه الآية، قال: (ذلك في قيام القائم ع ...) ([2]). وورد عن الدغشي، بإسناده، عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: (كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلوات الله عليه وآله، فخرج إلينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه نمشي، فانقطع شسع نعله، فأخذها علي صلوات الله عليه فتخلف عليها، ليصلحها، وقام رسول الله صلوات الله عليه وآله ينتظر، ونحن معه قيام - وفي القوم أبو بكر وعمر -. فقال رسول الله صلوات الله عليه وآله: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله. فاستشرف لها أبو بكر و عمر ! فقال: لا، ولكنه خاصف النعل. قال أبو سعيد الخدري: فأتيته بها لأبشره، فلم يرفع لها رأساً، فعلمت أنه شيء قد سمعه من رسول الله صلوات الله عليه وآله قبل ذلك) ([3]). إنّ المتابع لمسيرة أمير المؤمنين ع لم يجده يوما قاتل المتأولين، بمعنى أنه هو ع بشخصه لم يقاتل على تأويل القرآن، ورسول الله ص الذي لا ينطق عن الهوى قال: إنّ علياً من يقاتل على تأويل القرآن، فكيف يمكننا أن نفهم قول رسول الله ص بحيث لا نقع - والعياذ بالله - في الشك بقوله أو نتحجج بضعف الرواية أو ... أو ... غيرها من الحجج الواهية التي تكشف عن سقم النظر البشري خاصة إذا ما استغنى عن النظر بعين أولياء الله وحججه من الراسخين في العلم من آل محمد ص، واتكل على النظر بعين نفسه. قاتل علي ع بشخصه الكريم بعد رسول الله ص الناكثين بيعته في واقعة الجمل، وقاتل القاسطين معاوية وابن العاص وجيشهما في صفين، وقاتل المارقين الخوارج في النهروان، ولم يذكر التاريخ أو أهل البيت ص عنه ع أنه قاتل المتأولين، حيث ورد عن: (علي صلوات الله عليه أنه قال: أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ففعلت ما أمرت به، فأما الناكثون فهم أهل البصرة وغيرهم من أصحاب الجمل. وأما المارقون فهم الخوارج. وأما القاسطون فهم أهل الشام وغيرهم من أحزاب معاوية) ([4]). إذن، كيف يقاتل علي ع عن التأويل ؟! والإجابة على هذا السؤال هي التي دفعت إلى كتابة هذا البحث الذي من خلاله يتوضح لنا عقم نظر الناظرين إلى النص الإلهي الذي تحدث عن تأويل القرآن كما تحدث عن تنزيله، ولا يشك أحد في أن رسول التنزيل هو محمد ص، والمسلمون على اختلاف مللهم قطعاً لا يختلفون بهذا، ولكنهم للأسف اختلفوا بتأويله وبرسول تلك المرحلة المهمة من القرآن، مع أنّ رسول الله ص بيّن من يتولى مهمة التأويل، وكذلك آل محمد ص تكفلوا ببيان ذلك بما لا يترك حجة لمحتج ، ولكن الناس تصر على تجاهل بيان آل محمدص ويتمسكون بآرائهم وبالنظر إلى ألفاظ النصوص وتقويلها على حسب العرف؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنّ النظر إلى معاني النصوص يجعلهم بحاجة ماسة وضرورية إلى مترجم للنصوص الإلهية، وهذا المترجم أو المترجمون هم من سماهم رب العزة (الراسخين في العلم)، والناس بعد رسول اللهص اختارت سبيلاً آخر غير سبيل الراسخين، اختاروا سبيل تقويل النصوص بآرائهم وبما تعارفوا عليه من معاني الألفاظ بحسب ما يدعون أنّ القرآن عربي ولا يحتاج إلى مترجم لمعانيه، فهو يتكلم بلسانهم، وهذه مغالطة خطيرة صعب على الناس كشفها حتى جاء اليوم من يبينها من آل محمدص!! فظاهر الأمر قد يبدو صحيحاً؛ لأن الفهم العام للناس لا يعرف أنّ العربية هي بواقعها عربيتان لا واحدة - وهذا ربما لم يعرفه أكثر الناس بل وربما يصعب فهمه اليوم على كثير منهم - فهناك عربية الألفاظ وهي عربية لقوم يعيشون في مساحة جغرافية محددة لا تتجاوزها وبعث فيهم خاتم الأنبياء محمد ص، وهنا الامتحان إذ اختلط على الناس الفهم على الرغم مما بينه رسول الله ص وبينه آل محمد ص أنّ العربية ليست عربية النسب، وإنما هي عربية البيان والمعنى، حيث ورد: (عن أبي جعفر الباقر ع، قال: صعد رسول الله ص المنبر يوم فتح مكة فقال: "أيها الناس، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها. ألا إنكم من آدم ع، وآدم من طين. ألا إنّ خير عباد الله عبد اتقاه. إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق; فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه. ألا إنّ كل دم كان في الجاهلية أو إحنة - والإحنة: الشحناء - فهي تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة") ([5]). وكذلك ورد عن زرارة، قال: (سمعت أبا جعفر ع، يقول: أصل المرء دينه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه، وإنّ الناس من آدم شرع سواء) ([6]). فكون العربية لسان ناطق دال على أنّ النظر هو إلى عربية المعنى وعربية البيان وليس عربية الألفاظ؛ لأن عربية الألفاظ هي عربية الأب الوالد، وهذه نفاها بإحكام واضح رسول الله ص، وأثبت أنّ العربية لسان ناطق، ومعلوم أنّ اللسان هو آلة البيان، ومن دونه لا بيان، ومع هذا الفهم الذي تلقيناه من محمد وآل محمد ص يصير واضحاً معنى كون رسول الله ص مبعوثاً رحمة للعالمين وليس مبعوثاً للعرب الذين يربطهم النسب ويسكنون بقعة جغرافية معينة، وهذا يعني أنّ ما جاء به رسول الله ص هو هادٍ لكل أهل الأرض على اختلاف أعراقهم؛ لأنه يحدث فطرتهم (المعرفة الإلهية الكائنة في صفحة وجود الخلق)، وليس أحد منهم يسعه أن ينكر ذلك، وهذا ما وجد عليه أمثلة كثيرة على طول المسيرة التاريخية للإسلام حيث يقرأ البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم قول رسول الله ص وعندما يتبينوا معناه لا يسعهم بعد ذلك إلا التمسك به. نعم، ربما نجح نهج السقيفة الذي تشبث بشكل غريب بعربية الألفاظ (عربية الأب الوالد) في إعاقة وتعطيل مسيرة الهداية الكائنة في عربية البيان (عربية اللسان الناطق) عربية المعاني، ولكن هذا التعطيل والانحراف لا يستمر إلى الأبد أكيد وإنما له أجل معلوم يعلمه أهله ص ولقد قدموا من أجل بيانه للناس كل غال ونفيس ولم يبخلوا حتى بدمائهم الطاهرة ص. هذا هو يوم التأويل، يوم القائم ع، هذا يوم عربية المعاني (عربية اللسان الناطق) لا عربية الألفاظ، لا عربية النحو والصرف وتلك العلوم التي قصرت نظرها على الألفاظ وبقيت تدور بدائرتها المفرغة التي أنتجت تلك النظرة العرقية الطبقية البغيضة التي جعلت الناس إلى (سادة وموالي) بناء على عروبة الأب الوالد التي نفاها وأنكرها بوضوح رسول الله ص. واستبان اليوم - بفضل الله ومنه - معنى قول رسول الله ص لعلي ع أنه هو من سيقاتل على التأويل، وعلي ع هذا الذي يقاتل على التأويل ليس هو علي ع بشخصه الكريم، بل يفعله رجل منه، ويأتي في زمان يكون دوره دور علي ع في نصرة الدين وإقامة أركانه، وهذا الأمر توضحه رواية عباية الاسدي حيث ورد في معاني الأخبار: ابن الوليد، عن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن صالح بن ميثم، عن عباية الأسدي، قال: (سمعت أمير المؤمنين ع وهو مشنكى "لعله تصحيف متكئ" وأنا قائم عليه: لأبنين بمصر منبراً، ولأنقضن دمشق حجراً حجراً، ولأخرجن اليهود والنصارى من كل كور العرب، ولأسوقن العرب بعصاي هذه. قال: قلت له: يا أمير المؤمنين، كأنك تخبر أنك تحيى بعد ما تموت ؟ فقال: هيهات يا عباية ذهبت في غير مذهب يفعله رجل مني) ([7]). فعربية الألفاظ نقلت إلى عباية فهم أنّ من سيبني المنبر في مصر هو علي ع، ولذلك استفهم وسأل أمير المؤمنين ع بقوله: كأنك تخبر أنك تحيى بعد ما تموت ؟ فبين له أمير المؤمنين ع بعربية المعنى بقوله: هيهات يا عباية ذهبت في غير مذهب (يفعله رجل مني)، وكذلك القتال على التأويل يفعله رجل منه، تماماً كما بين هو ع في هذه الرواية الشريفة، وهذا كذلك بينته الرواية المحكمة الواردة عن الإمام الصادق ع التي تبين أنّ القائم سيلقي من جهل الناس أشد مما لاقى جده رسول الله ص، ويقولها بوضوح تام أنّ (كل سيتأول عليه كتاب الله)، فهذه الرواية المحكمة بينت معنى قول رسول الله ص لعلي ع قاتلت على تنزيله، وستقاتل على تأويله. ورد عن عمار بن ياسر في رواية طويلة نأخذ منها محل الشاهد يوضح فيها النبي ص أنّ الذي سيقاتل على التأويل هو المهدي ع حيث يقول عمار: (.... فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا المهدي ؟ قال: يا عمار، إنّ الله تبارك وتعالى عهد إليّ أنه يخرج من صلب الحسين تسعة، والتاسع من ولده يغيب عنهم، وذلك قوله عز وجل: "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين"، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم ويثبت عليها آخرون، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وهو سمي وأشبه الناس بي) ([8])، وهذا تصريح واضح من رسول الله ص وبيان منه أنّ معنى قوله لعلي ع ستقاتل على تأويله أي يقاتل على التأويل المهدي ع من ولدك. وهذا المعنى كذلك بينته رواية ما سيلاقي القائم ع من جهل الناس: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد بن مروان، عن الفضيل بن يسار، قال: (سمعت أبا عبد الله ع يقول: إنّ قائمنا إذا قام استقبل من جهل الناس أشد مما استقبله رسول الله ص من جهال الجاهلية. قلت: وكيف ذاك ؟ قال: إنّ رسول الله ص أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وإنّ قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله يحتج عليه به. ثم قال: أما والله ليدخلن عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر والقر) ([9])، فصاحب التأويل هو قائم آل محمد ع، وهو رسول التأويل من أبيه الإمام محمد بن الحسن العسكري ع المستحفظ من آل محمد ص، كما كان جده رسول الله ص رسول التنزيل. وأسأل الله سبحانه أن يجعل في هذا البحث نفعاً لقارئه حيث سينتبه أنه اليوم في زمن التأويل، وفي زمن رسول التأويل قائم آل محمد ع وهو من أعظم الأزمنة على هذه الأرض بعد زمن التنزيل، وأسأل الله جلت قدرته عظيم الشأن الحنان المنان أن يغفر لي تقصيري في الفهم والتوضيح فضلاً عن قصوري، وأسأله السداد في القول والعمل والثبات على نصرة رسول التأويل قائم آل محمد ع الإمام أحمد الحسن ع الذي قال الله جلت قدرته فيه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾([10]). والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليماً. -مدخل في معنى التأويل: بدءاً لابد من المرور على التفسير اللغوي لمفردة التأويل كما جرت العادة في ذلك عند الباحثين، لننطلق منه إلى البيان القرآني للتأويل مستعينين بالسنة المطهرة التي هي المستند الأساس في معرفة القرآن وبيانه، وقبل أن نشرع في بيان المعنى اللغوي لابد من الإتيان بالآيات التي ذكرت فيها مفردة التأويل وبيان أهل البيت ص لتلك الآيات. وهذا النهج سيكون بمثابة إضاءات تكشف لنا عن معنى التأويل الحقيقي الذي أضاعه أهل اللغة ومفسرو الرأي في حمأة الآراء والتصورات وتكاثرها وتزاحمها، وربما يقول قائل: إذن لماذا النظر في التفسير اللغوي ؟؟!! أجيب: إنّ النظر في التفسير اللغوي يعد دالة ابتدائية منها يستعين القارئ على فهم ما يريده آل محمد ص عند بيانهم لمعنى التأويل، وكذلك سيكون بيان آل محمد ص هادياً لكشف المعنى الحقيقي للتأويل الذي هو مقابل التنزيل أو هو - إذا جاز التعبير - مرآة التنزيل، وبه تستبين صورة التنزيل وتتوضح للناس أهميتها. الآيات القرآنية التي وردت فيها مفردة التأويل بمشتقاتها: 1- قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾([11]). ورد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله ع، قال: (نحن الراسخون في العلم فنحن نعلم تأويله)([12])، فالتأويل علم من علم الله سبحانه، وهذا العلم اختص به الله سبحانه خلفاءه كما اختصهم بعلم التنزيل ليكون وجودهم ضرورة في حياة الناس لا يمكن الاستغناء عنهم أبداً؛ لأن مجرد تصور هكذا حال يدخل الناس في التيه والضلال. 2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾([13]). 3- ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾([14]). ورد عن علي بن إبراهيم: (قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ فهو من الآيات التي تأويلها بعد تنزيلها. قال: ذلك في قيام القائم ...) ([15]). ومن يتدبر إشارة علي بن إبراهيم ينكشف له أمر غاية في الأهمية مفاده: كأن الأئمة الاثني عشر كانوا رسلاً من رسول الله ص لبيان التنزيل، والمهديين الاثني عشر هم رسل التأويل ولذلك عند ظهور القائم ع تبدأ مرحلة جديدة في التعاطي مع القرآن وهي مرحلة التأويل بعد أن ختمت مرحلة التنزيل بالإمام الثاني عشر المهدي ع ومنه فتح باب الإرسال بالتأويل وفتح المرحلة الجديدة في التعاطي مع القرآن، ولعل هذا البيان يكشف عن معنى الرواية الشريفة الواردة عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عاصم بن حميد الحناط، عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر ع: (يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد، ليس شأنه إلا السيف، ولا يستتيب أحداً، ولا تأخذه في الله لومة لائم) ([16]). 4- ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾([17]). ورد عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله ع، قال: (سئل عن الأمور العظام التي تكون مما لم يكن، فقال: لم يئن أوان كشفها بعد، وذلك قوله: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾) ([18]). وهذه إشارة واضحة من الإمام الصادق ع أنّ أوان الكشف منوط - كما وضحت الإشارة الواردة عن علي بن إبراهيم - بالقائم ع الذي فيه يفتح باب التأويل وكشف هذه العظائم التي سكت عن بيانها الإمام الصادق ع وقبله الإمام الباقر ع وكذلك أئمة أهل البيت الاثنا عشر ص، مما يوضح بصورة جلية أنّ مرحلة التأويل لها رسلها، كما أنّ لمرحلة التنزيل رسلها، ولعل هذا البيان يكشف لنا السر في وصية رسول الله ص بتقسيم الحجج بعده إلى اثني عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً ولم يقل بأنّ خلفاءه هم أربع وعشرون خليفة، ليتبين للناس أنّ هناك مرحلتين كل مرحلة أنيطت مسؤوليتها باثني عشر رسولاً، ففي مرحلة بيان التنزيل هناك اثنا عشر رسولاً هم الأئمة الاثنا عشر ص، وفي مرحلة التأويل هناك اثنا عشر رسولاً هم المهديون الاثنا عشر ص، وكذلك يتبين لنا أنّ مرحلة التنزيل هي مرحلة بيان معاني القرآن كي تكون هذه المعاني نوراً يهدي الناس في دولة الظلام إلى الحق، أما في مرحلة التأويل فالدولة هي دولة النهار دولة الحق، فالبيان فيها يكون للحقائق وليس للمعاني، ومن هنا بين آل محمد ص أنّ القائم إذا قام نشر خمسة وعشرين حرفاً من أحرف العلم، حيث ورد عن الإمام الصادق ع: (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام القائم ع أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً) ([19]). وورد عن: عن أبي بصير، عن أبي جعفر ع في قول الله عز وجل: ("قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين". فقال: هذه الآية نزلت في القائم، يقول: إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماء والأرض وحلال الله عز وجل وحرامه. ثم قال ع: والله ما جاء تأويل هذه الآية، ولا بد أن يجئ تأويلها) ([20]). وقول الإمام ع: (والله ما جاء تأويل هذه الآية) دال على أنّ انكشاف حقيقتها لم يأت بعد ولكن آل محمد ص بينوا معناها، فقالوا: (إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بإمام ظاهر ...)، وبيانهم ص يدل على أنّ هناك إماماً سيظهر هو غير الإمام الغائب ع وهذا الإمام الظاهر هو من يأتي بأخبار السماء والأرض وحلال الله عز وجل وحرامه، وهذا ما نراه واضحاً اليوم كالشمس في رابعة النهار، فها هو الإمام الظاهر الإمام أحمد الحسن ع يأتينا بأخبار السماء والأرض، ويحل حلال الله ويحرم حرامه. 5- ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾([21]). 6- ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾([22]). واستناداً إلى ما تبين من معنى لمفردة التأويل وأنها كشف لحقائق الأشياء، فتعليم نبي الله يوسف ع تأويل الأحاديث هو تعليمه وتعريفه بحقائق تلك الأحاديث بدليل رؤياه التي رآها بالشمس والقمر والأحد عشر كوكباً، عندما سجدوا له فقال ع كما حكى قوله عز وجل: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾([23]) حيث استبان حقيقة الرؤيا في هذا العالم بسجود أبويه وإخوته له، حقاً كما رآها حديثاً في الملكوت. 7- ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾([24]). والتأويل هنا الكشف عن حقيقة ما رأى الفتيان في عالم الملكوت، وهذا ما فعله نبي الله يوسف ع حيث قال لأحدهما أنه يسقي ربه خمراً، وحصل كما قال، وقال للآخر ستصلب وتأكل الطير من رأسك، ووقع تأويله كما قال نبي الله يوسف ع، فيتوضح لنا أنّ معنى تأويل الأحاديث هو الكشف عن حقائقها. 8- ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾([25]). 9- ﴿قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾([26]). 10- ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾([27]). 11- ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾([28]). 12- ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾([29]). 13- ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾([30]). 14- ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾([31]). 15- ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾([32]). المعنى اللغوي لمفردة التأويل: قال الراغب الأصفهاني: (التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا، ففي العلم نحو: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" [آل عمران: 7]، وفي الفعل كقول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل "العجز لعبدة بن الطبيب وأوله: وللأحبة أيام تذكرها من قصيدته المفضلية وهو في المفضليات ص136". وقوله تعالى: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" [الأعراف: 53] أي: بيانه الذي غايته المقصودة منه. وقوله تعالى: "ذلك خير وأحسن تأويلاً" [النساء: 59] قيل: أحسن معنى وترجمة، وقيل: أحسن ثوابا في الآخرة) ([33]). قال ابن منظور: (وأَوَّلَ الكلامَ وتَأَوَّله: دَبَّره وقدَّره، وأَوَّله وتَأَوَّله: فَسَّره. وقوله عز وجل: "ولَمَّا يأْتهم تأْويلُه" أَي لم يكن معهم علم تأْويله، وهذا دليل على أَن علم التأْويل ينبغي أَن ينظر فيه) ([34]). وكذلك أورد ابن منظور أقوال من حاولوا بيان التأويل: (التهذيب: وأَما التأْويل فهو تفعيل من أَوَّل يُؤَوِّل تأْويلاً وثُلاثِيُّه آل يَؤُول أَي رجع وعاد. وسئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن التأْويل فقال: التأْويل والمعنى والتفسير واحد. قال أَبو منصور: يقال أُلْتُ الشيءَ أَؤُوله إِذا جمعته وأَصلحته فكان التأْويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه. وقال بعض العرب: أَوَّل اللهُ عليك أَمرَك أَي جَمَعَه، وإِذا دَعَوا عليه قالوا: لا أَوَّل اللهُ عليك شَمْلَك. ويقال في الدعاء للمُضِلِّ: أَوَّل اللهُ عليك أَي رَدَّ عليك ضالَّتك وجَمَعها لك. ويقال: تَأَوَّلت في فلان الأَجْرَ إِذا تَحَرَّيته وطلبته. الليث: التأَوُّل والتأْويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إِلاّ ببيان غير لفظه؛ وأَنشد: نحن ضَرَبْناكم على تنزيله، فاليَوْمَ نَضْرِبْكُم على تَأْويلِه " قوله: نضربْكم، بالجزم؛ هكذا في الأصل ولعل الشاعر اضطُرّ إلى ذلك محافظة على وزن الشعر الذي هو الرجز". وأَما قول الله عز وجل: "هل ينظرون إِلا تأْويله يوم يأْتي تأْويله"، فقال أَبو إِسحق: معناه هل ينظروه إِلا ما يَؤُول إِليه أَمرُهم من البَعْث، قال: وهذا التأْويل هو قوله تعالى: وما يعلم تأْويله إلا الله؛ أَي لا يعلم مَتَى يكون أَمْرُ البعث وما يؤول إِليه الأَمرُ عند قيام الساعة إِلا اللهُ والراسخون في العلم يقولون آمنا به أَي آمنا بالبعث، والله أَعلم؛ قال أَبو منصور: وهذا حسن، وقال غيره: أَعلم اللهُ جَلَّ ذكرُه أَن في الكتاب الذي أَنزله آياتٍ محكماتٍ هن أُمُّ الكتاب لا تَشابُهَ فيه فهو مفهوم معلوم، وأَنزل آيات أُخَرَ متشابهات تكلم فيها العلماء مجتهدين، وهم يعلمون أَن اليقين الذي هو الصواب لا يعلمه إِلا الله، وذلك مثل المشكلات التي اختلف المتأَوّلون في تأْويلها وتكلم فيها من تكلم على ما أَدَّاه الاجتهاد إِليه، قال: وإِلى هذا مال ابن الأَنباري. وروي عن مجاهد: هل ينظرون إِلا تأْويله، قال: جزاءه. يوم يأْتي تأْويله، قال: جزاؤه. وقال أَبو عبيد في قوله: وما يعلم تأْويله إِلا الله، قال: التأْويل المَرجِع والمَصير مأْخوذ من آل يؤول إِلى كذا أَي صار إِليه. وأَوَّلته: صَيَّرته إِليه. الجوهري: التأْويل تفسير ما يؤول إِليه الشيء، وقد أَوّلته تأْويلاً وتأَوّلته بمعنى؛ ومنه قول الأَعْشَى: على أَنها كانت، تَأَوُّلُ حُبِّها تَأَوُّلُ رِبْعِيِّ السِّقاب، فأَصْحَبا قال أَبو عبيدة: تَأَوُّلُ حُبِّها أَي تفسيره ومرجعه أَي أَن حبها كان صغيراً في قلبه فلم يَزَلْ يثبت حتى أَصْحَب فصار قَديماً كهذا السَّقْب الصغير لم يزل يَشِبُّ حتى صار كبيراً مثل أُمه وصار له ابن يصحبه. والتأْويل عبارة الرؤيا. وفي التنزيل العزيز: هذا تأْويل رؤياي من قبل. وآل مالَه يَؤوله إِيالة إِذا أَصلحه وساسه) ([35]). ومما ذكر أعلاه نخرج بحصيلة أنّ للتأويل معاني لغوية، هي: 1- الرجوع إلى الأصل. 2- رد الشيء إلى غايته. 3- البيان. 4- معنى وترجمة. 5- التفسير. 6- التأويل: علم. 7- التأويل: هو الرجوع والعودة. 8- هو الجمع والإصلاح. 9- هو التحري والطلب. 10- هو تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلا ببيان غير لفظه. (وهو قول الليث). 11- وقول مجاهد أنّ التأويل هو: الجزاء. 12- وقول أبو عبيد أن التأويل هو: المرجع والمصير، وأولته: صرت إليه. 13- التأويل: عبارة الرؤيا. 14- أوَّله: أصلحه وساسه. ونستنتج من كل هذه المعاني للتأويل هو تعلقه بلسان ناطق، فالمعاني الأربعة الأولى التي أشار لها الراغب الأصفهاني كلها تعود إلى الرسول الناطق كونه هو وعاء المعاني وما الألفاظ الخارجة من لسانه إلا رشحات هذا المعنى؛ لأنه هو وعاء الكتاب (المعاني) في هذا العالم، وكذلك التفسير يحتاج إلى مفسر أي إلى لسان يفسره، والعلم يحتاج إلى وعاء ووعاء علم التأويل كما بينه الله سبحانه هم (الراسخون في العلم). قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾([36]). وقال تعالى: ﴿لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾([37]). فالراسخون هم وعاء علم التأويل، ومنهم يؤخذ علمه. وكذلك الرجوع والعودة والإصلاح والجمع كلها معان تحتاج إلى رجل يُرجع إليه وبه يكون الإصلاح والجمع، ومن ينظر في قول أمير المؤمنين ع: (... فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يأويهما مؤو، فحبذا ذانك الصاحبان واهاً لهما ولما يعملان له، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم وذلك لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا ...) ([38]). يتبين للقارئ أنّ القرآن لابد أن يجتمع بصاحبه وباجتماعهما يكون الصلاح، ومن دون هذا الاجتماع يبقى القرآن معطلاً كما هو حاله اليوم بين الناس لا وجود له في حياتهم سوى أنه ساحة للمسابقات وتنغيم الأصوات حسب، أما في واقع الحياة فلا وجود له. أما كون معناه التحري والطلب، فالسؤال المطروح: هل يتم التحري والطلب هكذا ؟؟! أو لابد لهذا التحري والطلب من فاعل له، ومن عساه هذا الفاعل غير الراسخ في العلم ؟؟!! أما معانيه من النقطة سادساً إلى النقطة عاشراً فكلها لازمة لملزوم هو الناطق بالقرآن، وبغياب الملزوم يتعطل اللازم، بل ينتفي وجوده، وبما أنّ اللازم موجود فوجوده دليل واضح على وجود ملزومه، فالتفسير لازم ملزومه المفسر، وكذلك الجزاء والمرجع والمصير والتعبير، كلها لوازم لملزوم واحد به يثبت وجودها ولا ينتفي أو يتعطل. وبعد هذه القراءة في المعاني اللغوية لمفردة التأويل، دلنا البحث على أنّ هذه المفردة بكل معانيها إنما هي دالة على رجل تجتمع فيه كل تلك المعاني، فيكون هو صاحب التأويل، كما كان رسول الله ص صاحب التنزيل. وكذلك نخلص إلى فهم مفاده أنّ التفسير هو التعريف بمعاني التنزيل، بينما التأويل هو بيان حقائق التنزيل، فيكون العلاقة بين التفسير والتأويل هي علاقة العام بالخاص، ولعل من النافع أن ننقل ما بينه الباحث علاء السالم عن التأويل استناداً إلى ما روي عن آل محمد ص: (التأويل بكلمة واضحة مختصرة: مأخوذ من الأوْلى، يعني عندما يكون أكثر من معنى، فهم يختارون المعنى الأوْلى، ويسمون هذا تأويلاً. وأما التفسير: فهو بيان معنى الكلام الصحيح، وليس كل بيان للمعنى يحتوي تأويلاً، فالتفسير أعم من التأويل، والتأويل هو بعض التفسير. ولعلماء المسلمين في بيانهما كلمات كثيرة واختلاف واسع يعرفه المطالع كتبهم التي تناولت ذلك، ولا يهمنا التعرض لها بعد خروجها عن غرض الكتاب، وهذا مجرد مثال لها: قال السيد الخوئي: ".. فالمراد بتأويل القرآن: ما يرجع إليه الكلام وما هو عاقبته، سواء أكان ذلك ظاهراً يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفياً لايعرفه إلا الراسخون في العلم" [البيان في تفسير القران: ص224]. وقال السيد الطباطبائي: "التأويل: مأخوذ من الأوَل بمعنى الرجوع، ويراد من التأويل الشيء الذي ترجع الآية إليه. والتنزيل يقابل التأويل وهو المعنى الواضح للآية الذي لا يحتاج إلى إرجاعه إلى شيء آخر" [القرآن في الإسلام: ص39]. ولخطورة تأويل الكتاب وما يترتب عليه من جهة، وتعلّقه بأناس أورثهم الله سبحانه علم كتابه وخصهم به (وهم خلفاؤه وحججه على خلقه) من جهة ثانية، كما أنّ عقول الرجال أبعد ما تكون عن إدراك حقائقه التي انطوى عليها من جهة ثالثة، ورد النهي الأكيد عن القول في كتاب الله بغير علم والاقتراب من تفسيره والخوض في تأويله وكشف أسراره) ([39]). * * * -مبحث في جهتي المعرفة: بدءاً لابد من الإشارة إلى أنّ النظر في ما قدمه لنا يماني آل محمد السيد أحمد الحسن ع في ما أصدر من بيان للمتشابهات في القرآن والسنة، هو كشف مهم جداً لحقيقة المعرفة وسبلها ووسائلها ونهجها الذي على الناس انتهاجه كي يصلوا إلى الغاية التي من أجلها كان الخلق، حيث ورد في الحديث القدسي: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف) ([40]). ومن هذا الحديث الشريف يستبين لنا أنّ للمعرفة شقين؛ الأول أصل وهو المعرفة الخارجية أي المعرفة الناظرة إلى غاية الخلق، والثاني هو معرفة الذات البشرية مصداقاً لما ورد عن أمير المؤمنين ع: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ([41]). ولعل في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([42]) هذه الإشارة واضحة في أنّ البيان يحصل للعباد عند رؤيتهم آيات الله سبحانه - أي علاماته ودلائله - في الآفاق - وهي واقع خارجي - وفي أنفسهم - أي الرؤية التي تنتج معرفة تلك الأنفس -، وثابت في فطرة الإنسان أنّ الفاعل غني والقابل فقير، والقابل مكلف بالسعي إلى الفاعل. وهذا السعي ليس لتلقي الفيض الإلهي، فتلقي الفيض حاصل ابتداء ولكن السعي يكون للاقتراب من منبع الفيض لضمان صفاء الفيض ونقائه مما يمكن أن يتعلق به من الزبد الذي يستحيل معه المحكم متشابهاً، قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾([43]). فجاء الجزء الأول من المتشابهات ليبيِّن للناس منهاج معرفة الغيب الذي هو واقع خارجي، واستناداً إلى تلك المعرفة يكون ممكناً معرفة الذات البشرية، ومن دون تحقق تلك المعرفة لا يمكن تحقق معرفة النفس، بمعنى أنّ المخلوق إذا لم يعرف إلهه وربه سوف يجهل مقامه الحق وهو العبودية، ويتوهم أنه هو البداية والنهاية فيعمل على وفق نهج (أنا وما بعدي الطوفان)، فيتوهم أنه هو الرب والسيد، ومن ثم فلابد أن يتعسف لتحصيل عبيداً له يشعرونه بتوهمه أنه رب وسيد وتبدأ رحلة الظلم والجور، ومن ثم يغلق كل سبيل لمعرفة النفس، فلا تتحقق معرفة النفس التي هي بالنتيجة تؤدي إلى جهل بالرب سبحانه وغفلة كبيرة عنه. لذا علينا أن نلتفت إلى أنّ المعرفة الأصل التي يريدها الله سبحانه هي المعرفة المتعلقة بكنهه وحقيقته سبحانه؛ أي بالكنز المخفي، بمعنى أن لا موجود إلا هو سبحانه وهذه هي المرتبة الأولى نزولاً وهي معرفة بأحديته سبحانه وهي معرفة مستندة إلى تنزيهه سبحانه من كل وصف، والمرتبة الثانية هي معرفة الغيب بذاته وبأسمائه - أي بصمديته سبحانه -؛ لأنها جهات عطائه وتلك المعرفة كاشفة عن غناه بذاته وهذه المعرفة إنما تتم من خلال معرفة العبد بما ينقصه، وهي معرفة مستندة إلى تنزيهه عن كل نقص، وكاشفة عن فقر المخلوق وحاجته المطلقة إليه سبحانه. وبذلك تكون أسماؤه وصفاته جهة جذب لمكامن النقص في المخلوق فيشرع العبد بالعمل باتجاه جهات الكمال لسد النقص وقضاء الحاجة، حيث يعمل العبد - عندما يستشعر نقصه - على السعي في سد هذا النقص من خلال استكمال عقله بالتوجه والسعي نحو العقل الكامل، فيكون هذا العبد؛ أي الذي استكمل العقل من خلال حيازة المعرفة بالله سبحانه عبداً منجذباً نحو الكمال، وهي المرحلة الثانية في طلب المعرفة، وبعد أن يصل إلى مدينة الكمال وهي المرحلة الثالثة ينكشف له سر المعرفة وغايتها وهو إنما قطع هذه الأشواط الثلاثة ليعرف عبوديته التامة للحق الذي بمعرفته تبين له معنى عجزه عن معرفته وعن الإحاطة به، وعلم وتيقن أنه هو المحيط به فسلّم له قياده إقراراً بعجزه عن معرفته وأن لا كون له إلا به سبحانه فعلم عظيم صغار نفسه وذله قبال ما انكشف له من عظيم جلال ربه وعزته سبحانه. وتلك المراحل بينها سيدنا إبراهيم ع عندما حصلت له المعرفة الملكوتية بالأصل واستكملها، فكاشف قومه قائلاً كما عبر الحق على لسانه: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ( وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾([44]). وكذلك هذا ما بينه الحق سبحانه في سورة الإخلاص عندما قال عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( اللَّهُ الصَّمَدُ﴾([45]). فمعرفة الله سبحانه بالأحدية هي معرفة الغيب بالألوهية أي: الواقع الخارجي النوراني، النور الذي لا ظلمة فيه، بحسب تعبير الإمام الصادق ع: (إنّ الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه) ([46])، الذي يأله إليه الخلق، ومعرفة الله بالصمدية هي معرفة الغيب بالربوبية أي بأسمائه سبحانه الدالة على غناه وهي كذلك جهات عطائه وسبل تربيته لهم، فالتوجه لله سبحانه باسم الخالق بوصفه جهة الهداية وبهذا الاسم يكتشف المخلوق نقصه وحاجته إلى الكمال فلابد له من التوجه لمن خلقه كي يسد نقصه (ضلاله) بالهداية. وسبحان الله هذا الأمر واضح تماماً ويتعامل معه الناس يومياً في حياتهم المادية حيث إنهم لو وجدوا حاجة من الحاجات يسألون عن صانعها؛ لأن معرفة صانعها تجعلهم يطمئنون إلى شرائها واقتنائها، وكذلك النفس الإنسانية لا اطمئنان لها إلا بمعرفتها لجهة الهداية التي توفر لها الاطمئنان، وبحسب الوصف القرآني انشراح الصدر. قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾([47]). فالشعور بالاطمئنان هو علامة الهداية، وهو الذي يجعل العبد يشري نفسه ابتغاء مرضاة ربه. قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([48])، والشعور بالضيق والحرج أي عدم الاطمئنان هو علامة على الضلال، وهكذا حال النفس وتوجهها إلى أسماء الله الحسنى بوصفها جهات الأله وسد النقص في النفس وطلب الكمال، ومن هنا كان (من عرف نفسه بنقائصها عرف الغني المطلق وجهة الكمال فيتوجه لها لسد تلك النقائص فكان لابد أن يتوجه إلى الصمد - أي المقصود الغني بذاته - كي يستكمل نواقصه، وباستكماله لنواقصه تنكشف له عبوديته الحق فيعرف أن له رباً غنياً صمداً). ومعرفة الله سبحانه بالأحدية هي التي أشار إليها الطاهرون ص بقولهم: (اعرفوا الله بالله)، وهو السؤال الأول الذي افتتح به اليماني ع بيانه لأسرار علم الإمام المهدي ع في المتشابهات. فبيَّن أنّ أساس المعرفة هو أنّ الله سبحانه الغيب المطلق لا يعرف إلا بصورته الظاهرة في الخلق، وهو الإمام الحجة الذي يشترك مع المخلوقين بكونه بشراً مثلهم، ويفترق عنهم بإنسانيته، فهو باعتباره المادي بشراً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾([49]). ولذلك كان الامتحان كبيراً، قال تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾([50])، وكونه إنساناً فهو يأنس بالله سبحانه وآياته، قال تعالى: ﴿إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً﴾([51]). وسمي المخلوق عموماً أي جنس المخلوق إنساناً؛ لأنه لابد له من جهة يأنس لها فهو لا طاقة له على أن يكون وحيداً، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾([52]). لكونه ثنوي الوجود فهو نور وظلمة، فإما أن يأنس بالنور فيرتقي وإما يأنس بالظلمة فيتسافل، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾([53]). ولذلك كان المخلوق الذي في العوالم العلوية إنساناً؛ لأنه أنس بالنور الإلهي وعشقه فكان إنساناً مخلوقاً في أحسن تقويم، وفي المخلوق الذي في أسفل سافلين هو إنسان؛ لأنه أنس بالمادة والظلمة وعشقها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾([54]). وكون حجة الله إنساناً لا باعتبار الجنس ولكن باعتبار؛ النوع، وجهة الأنس، فالذين تكون جهة أنسهم النور فأولئك نوع يصدق عليهم الوصف بالإنسانية وهم مصداقها الحق؛ لأنه لا عشق له حقاً، ولا أنس له حقاً إلا النور ومصدر النور وهو الغيب المطلق سبحانه، ولذلك قال موسى ع إني آنست ناراً؛ لأن النار في الظلمة هي الهادية والنار باطنها النور وحقيقتها النور. أما وصفها بالنار فلأنها ظاهر النور، ولولا النار لما عرف النور الذي يكشف الظلمة، ولكن فارق النار عن النور هو أنّ النار هي مادة النور، ولذلك من جاءها طالباً النور فني فيها وصار نوراً ولا يبقى منه اسم أو رسم، والذي توجس منها خيفة ولم يقاربها ونظر إلى مادتها وحبس نفسه عليها غشيته وأحرقته وكشفت خبثه، فكلما ازداد استعاراً كشف عن ظلمته وكثافة مادته التي قتلت النور الذي منه خلق، ولذلك هو لا يأنسها بل يكرهها. فمن كان كثيفاً وجعل المادة بغيته فهو يخشى النار لأنها تحرقه وتهلكه، والذي خفت مادته وثقل نوره فهذا يدخل النار كي تظهر معدنه النوراني الأصل، فالنار له كما هي لعود الندِّ تظهر رائحته الزكية ومن ثم فهو يرغب في النار لأنها تظهر حقيقته وتخلصه من سجن المادة. ومن هنا يمكن فهم قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾([55])، فالذي افتتن بظاهرها ومادتها كان من مادتها ولذلك فالحق سبحانه يأمر المؤمنين بقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾([56])، فمن ألقى نفسه بالنار بدءاً امتثالاً لأمر الله سبحانه توقاها في آخرها فيردها ورود إبراهيم ع العارف بربه سبحانه، ومن لم يمتثل لأمر الله سبحانه فسيردها في آخرها ويخلد فيها مهاناً. إنّ الناظر في إحكام المتشابهات الذي جاء به الإمام أحمد الحسن ع يتبين له معنى التأويل، حيث إنه ع يقول: (اعملوا واعملوا واعملوا حتى ينقطع النفس فإنّ في العمل نجاتكم)، فالإمام ع هنا نقل المعرفة من ساحة التنظير وتكثير المعلومات إلى معناها الحقيقي كونها القدرة المنقولة من القوة إلى الفعل، وهذه القدرة التي تكون فعلاً لها جهتان؛ الأولى: ارتقائية في عوالم النور، والثانية: تسافلية في عوالم الظلمة، وقول الإمام ع اعملوا ثلاث مرات كأنه يشير ع إلى أنّ للعمل ثلاث مراتب في جهة الارتقاء، فالمرتبة العملية الأولى تكون بمعرفة حجة الله في خلقه، والمرتبة الثانية تكون بالعمل بأمره والكف عما نهى عنه، والمرتبة الثالثة تكون بإدراك العامل لمعنى العجز عن معرفة حجة الله كونه وجه الله سبحانه الذي واجه به خلقه. فالتأويل هو بيان حقائق التنزيل بالعمل، فالعمل هو الميزان الكاشف عن حقيقة المعرفة والإدراك لحقائق التنزيل، فقد اجتهد الأئمة الاثنا عشر رسل العلم (التنزيل) من محمد ص في بيان وترجمة كلمات الكتاب، وعملوا بجهد منقطع النظير لإعداد حملة لعلمهم من الناس، فكانوا أولئك الناس - ويا للأسف - لا يتجاوزون مع كل رسول للعلم من أئمة أهل البيت ص أصابع اليد الواحدة. حتى وصل الأمر اليوم إلى قائم آل محمد ع المكلف بإعداد أمة عاملة وليست حاملة للعلم، فبظهوره ع يكون الإيذان ببدء مرحلة جديدة من الإرسال وختم مرحلة سابقة، فبظهوره يكون ختم الإرسال العلمي (التنزيلي)، وبدء الإرسال العملي (التأويلي) أي أنّ المهديين ص هم رسل حكم، والحكم عمل وتطبيق لكل مفردات العلم التي أشاعها وحملها رسل العلم. فتكون وصية رسول الله ص بذلك قد بينت المسؤوليات وحددتها بصورة دقيقة يصدق فيها شهادة الله سبحانه وهي الصدق حقاً حقاً عندما قال: ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾([57])، فكمال الدين تم بإنزال الرسالة الخاتمة، وتمام النعمة هو ببيان المنهج الإلهي الذي يحكم الواقع الدنيوي حكماً إلهياً لا سبيل لرده أو التمرد عليه وذلك من خلال تعيين رسل التنزيل وهم اثنا عشر إماماً ص، ورضيت لكم الإسلام ديناً تم بتعيين رسل التأويل وهم اثنا عشر مهدياً خلفاء الله في دولة العدل الإلهي. فكان الرسول محمد ص خاتم الأنبياء كونه ص به ختم التنزيل أي لا رسالة من السماء غير رسالة محمد ص، وبهذه الرسالة الخاتمة فتح عهد جديد يكشف عن منهج هذه الرسالة الخاتمة ذات الثلاثة أبعاد، هي: 1- بعد تنزيلي أتمه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد ص. 2- بعد علمي (تنزيلي): أنيطت مسؤوليته باثني عشر إماماً ثبّت أسماءهم رسول الله ص في وصيته عند حضور وفاته، تلك الوصية التي رفضت عامة الناس سماعها والشهادة عليها فزواها رسول الله ص عمن رفض سماعها وأثار اللغط عندما طلب أن يكتبها - كما تبين ذلك رزية يوم الخميس التي رواها ابن عباس وأوردتها صحاح السنة - ولكنه ص أشهد عليها خاصة المسلمين الذين لم يرفضوا الشهادة عليها فأشهدهم عليها ليلة وفاته وهم بضعة نفر. حيث ورد في صحيح البخاري: (في باب جوائز الوفد من (كتاب الجهاد والسير): حدثنا قبيصة: حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة) ([58]). 3- بعد حكمي (تأويلي): أنيطت مسؤوليته باثني عشر مهدياً ذكرهم رسول الله ص في وصيته المقدسة، ولعل الإمام أحمد الحسن ع أجاب على سؤال كثيراً ما سأله الناس وشرقوا وغربوا في محاولات الإجابة عنه، ذاك هو الروايات الواردة عن آل محمد ص التي تذكر بأنّ القائم ع يأتي بدين جديد على العرب شديد !! فالدين الجديد الذي بشر به رسل العلم الاثني عشر استبان اليوم وبدا واضحاً للناس، وهذا الدين هو الاعتقاد بإمامة المهديين الاثني عشر بعد أبيهم الحجة بن الحسن ع، وهذا أمر جديد ما كان أحد يعلم به حتى أظهره يماني آل محمد ع على الملأ اليوم وراح يبشر به ويدعو له. وهذا الدين الجديد هو دين العمل لإقامة حاكمية الله سبحانه، مثلما كان تكليف محمد ص هو ما بينه سبحانه وهو تبليغ الرسالة (أي الكتاب العاصم من الضلال)، وقد أكمل ذلك رسول الله ص فكان به كمال الدين حيث بيّن للناس ما يعصمهم من الضلال فيما لو تمسكوا به، وهو عام (الكتاب والعترة) وخاص فيه بيان للعترة المأمور التمسك بهم، وأولئك قد حوى أسماءهم وصيته ص المقدسة، فيكون بذلك قد أتم رسول الله ص تكليفه في هذا العالم ورحل. بعده بدأت مرحلة جديدة من الدين هي مرحلة إتمام النعمة وذلك بوجود اثني عشر إماماً تكليفهم تعليم الناس رسالة رسول الله ص وحفظ تلك الرسالة، وهذا بينه الحق سبحانه في آيات منها؛ قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾([59]). وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾([60])، فالتنزيل تم بمحمد ص والحفاظ على التنزيل مهمته أنيطت بالأئمة الاثني عشر الذين هم آل محمد ص. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([61]) فهذه الآية الكريمة تبين أنّ أهل الذكر يوحى إليهم إذ لا يكون من أهل الذكر إلا إذا كان ممن يوحى إليهم، وهذا قيد يمنع أن يدعي أحد أنه من أهل الذكر وهو ليس منهم، ولذلك ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ خَاصِمُوا بِسُورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنَاه تَفْلُجُوا فَوَاللَّه إِنَّهَا لَحُجَّةُ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه ص وإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ دِينِكُمْ وإِنَّهَا لَغَايَةُ عِلْمِنَا يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ) ([62]). لماذا ؟؟!! لأن سورة القدر تكشف للناس أنّ الوحي لا ينقطع ما دام هناك شهر في السنة اسمه شهر رمضان، وليلة فيه اسمها ليلة القدر، وفي ليلة القدر تنزل الملائكة بقيادة الروح (الملك الأعظم) فعلى من تتنزل الملائكة في تلك الليلة ؟؟!! ولماذا تتنزل ؟؟! أليست تتنزل بوحي إلهي ؟؟!! ونذكر هنا الرواية التي تتحدث عن ذلك، وذكر الرواية بكاملها دون موضع الشاهد فيه منافع كثيرة سيدركها القارئ عند قراءتها، حيث ورد عن محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن الحسن العباس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني ع، قال: (قال أبو عبد الله ع: بينا أبي ع يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيض له فقطع عليه أسبوعه حتى ادخله إلى دار جنب الصفا، فأرسل إليّ فكنا ثلاثة، فقال: مرحباً يا ابن رسول الله، ثم وضع يده على رأسي وقال: بارك الله فيك يا أمين الله بعد آبائه يا أبا جعفر، إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرتك، وإن شئت سلني وإن شئت سألتك، وإن شئت فأصدقني وإن شئت صدقتك. قال: كل ذلك أشاء، قال: فإياك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمر لي غيره، قال: إنما يفعل ذلك من في قلبه علمان يخالف أحدهما صاحبه وإنّ الله عز وجل أبى أن يكون له علم فيه اختلاف. قال: هذه مسألتي وقد فسرت طرفاً منها. أخبرني عن هذا العلم الذي ليس فيه اختلاف، من يعلمه ؟ قال: أما جملة العلم فعند الله جل ذكره، وأما ما لا بد للعباد منه فعند الأوصياء. قال: ففتح الرجل عجيرته واستوى جالساً وتهلل وجهه، وقال: هذه أردت ولها أتيت زعمت أنّ علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه ؟ قال: كما كان رسول الله ص يعلمه إلا أنهم لا يرون ما كان رسول الله ص يرى؛ لأنه كان نبياً وهم محدثون، وأنه كان يفد إلى الله عز وجل فيسمع الوحي وهم لا يسمعون. فقال: صدقت يا ابن رسول الله سآتيك بمسألة صعبة. أخبرني عن هذا العلم ماله لا يظهر كما كان يظهر مع رسول الله ص ؟ قال: فضحك أبي ع وقال: أبى الله عز وجل أن يطلع على علمه إلا ممتحناً للإيمان به كما قضى على رسول الله ص أن يصبر على أذى قومه ولا يجاهدهم إلا بأمره، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتى قيل له اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ، وأيم الله أن لو صدع قبل ذلك لكان آمناً، ولكنه إنما نظر في الطاعة، وخاف الخلاف فلذلك كف، فوددت أن عينك تكون مع مهدي هذه الأمة، والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذب أرواح الكفرة من الأموات، وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء. ثم أخرج سيفاً ثم قال: ها إن هذا منها، قال: فقال أبي: إي والذي اصطفى محمداً على البشر، قال: فرد الرجل اعتجاره وقا : أنا إلياس، ما سألتك عن أمرك وبي منه جهالة غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث قوة لأصحابك وسأخبرك بآية أنت تعرفها إن خاصموا بها فلجوا. قال: فقال له أبي: إن شئت أخبرتك بها. قال: قد شئت، قال: إنّ شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا: إنّ الله عز وجل يقول لرسوله ص: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" - إلى آخرها - فهل كان رسول الله ص يعلم من العلم - شيئاً لا يعلمه - في تلك الليلة أو يأتيه به جبرئيل ع في غيرها ؟ فإنهم سيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان لما علم بد من أن يظهر ؟ فيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان فيما أظهر رسول الله ص من علم الله عز ذكره اختلاف ؟ فإن قالوا: لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف فهل خالف رسول الله ص ؟ فيقولون: نعم - فإن قالوا: لا، فقد نقضوا أول كلامهم - فقل لهم: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. فإن قالوا: من الراسخون في العلم ؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا فمن هو ذاك ؟ فقل: كان رسول الله ص صاحب ذلك، فهل بلغ أو لا ؟ فإن قالوا: قد بلغ. فقل: فهل مات ص والخليفة من بعده يعلم علماً ليس فيه اختلاف ؟ فإن قالوا: لا، فقل: إنّ خليفة رسول الله ص مؤيد ولا يستخلف رسول الله ص إلا من يحكم بحكمه وإلا من يكون مثله إلا النبوة، وإن كان رسول الله ص لم يستخلف في علمه أحداً فقد ضيع من في أصلاب الرجال ممن يكون بعده. فإن قالوا لك: فإن علم رسول الله ص كان من القرآن. فقل: "حم والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة [إنا كنا منذرين فيها] - إلى قوله -: إنا كنا مرسلين". فإن قالوا لك: لا يرسل الله عز وجل إلا إلى نبي. فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزل من سماء إلى سماء، أو من سماء إلى أرض ؟ فإن قالوا: من سماء إلى سماء، فليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية، فإن قالوا: من سماء إلى أرض - وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك -. فقل: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه ؟ فإن قالوا: فإن الخليفة هو حكمهم. فقل: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور - إلى قوله: - خالدون"، لعمري ما في الأرض ولا في السماء ولي لله عز ذكره إلا وهو مؤيد، ومن أيد لم يخط، وما في الأرض عدو لله عز ذكره إلا وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما أنّ الأمر لا بد من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض، كذلك لابد من وال، فإن قالوا: لا نعرف هذا. فقل [لهم]: قولوا ما أحببتم، أبى الله عز وجل بعد محمد ص أن يترك العباد ولا حجة عليهم. قال أبو عبد الله ع: ثم وقف. فقال: ههنا يا ابن رسول الله باب غامض أرأيت إن قالوا: حجة الله القرآن ؟ قال: إذن أقول لهم: إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهى، ولكن للقرآن أهل يأمرون وينهون، وأقول: قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنة والحكم الذي ليس فيه اختلاف، وليست في القرآن، أبى الله لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض، وليس في حكمه راد لها ومفرج عن أهلها. فقال: ههنا تفلجون يا ابن رسول الله، أشهد أنّ الله عز ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة في الأرض أو في أنفسهم من الدين أو غيره، فوضع القرآن دليلاً. قال: فقال الرجل: هل تدري يا ابن رسول الله دليل ما هو ؟ قال أبو جعفر ع: نعم، فيه جمل الحدود، وتفسيرها عند الحكم. فقال: أبى الله أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو [في] ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة. قال: فقال الرجل: أما في هذا الباب فقد فلجتهم بحجة إلا أن يفتري خصمكم على الله فيقول: ليس لله جل ذكره حجة ولكن أخبرني عن تفسير "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" مما خص به علي ع "ولا تفرحوا بما آتاكم". قال: في أبي فلان وأصحابه واحدة مقدمة وواحدة مؤخرة "لا تأسوا على ما فاتكم" مما خص به علي ع، "ولا تفرحوا بما آتاكم" من الفتنة التي عرضت لكم بعد رسول الله ص. فقال الرجل: أشهد أنكم أصحاب الحكم الذي لا اختلاف فيه. ثم قام الرجل وذهب فلم أره) ([63]). بعد مرحلة إتمام النعمة وهي المرحلة الثانية في مسيرة تطبيق الدين الإلهي على هذه الأرض، تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة تلك هي مرحلة (ورضيت لكم الإسلام ديناً) أي مرحلة إظهار الدين على الدين كله فلا تكون الهيمنة على الأرض في تلك المرحلة لغير الإسلام، وهذا بينه الله سبحانه بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾([64]). وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾([65]). وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾([66]). وتعد هذه المرحلة الأخيرة من أشد المراحل صعوبة وقسوة؛ لأن فيها مواجهة صريحة وعلنية لجهل الناس الذي باض وفرخ في قلوبهم ورؤوسهم طوال القرون الماضية، وقد بين آل محمد ص هذه الصعوبة حيث: (أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد بن مروان، عن الفضيل بن يسار، قال: "سمعت أبا عبد الله ع يقول: إنّ قائمنا إذا قام استقبل من جهل الناس أشد مما استقبله رسول الله ص من جهال الجاهلية. قلت: وكيف ذاك ؟ قال: إنّ رسول الله ص أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وإنّ قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله يحتج عليه به. ثم قال: أما والله ليدخلن عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر والقر") ([67]). وها هو المكلف بالتأويل يشرع بتكليفه ويبين للناس ما عطلوه من دين محمد ص وهو الثقل الأكبر بعد تعطيلهم للثقل الأصغر وهم العترة الطاهرة ص، وبالفعل كان أحمد ع كما وصفه جده رسول الله ص في وصيته أنه أول المؤمنين في آخر الزمان، حيث عادت الجاهلية مرة أخرى وإن ارتدت هذه المرة لباس الدين ومسوح الزاهدين، ولكن القلوب خلت من الهدى تماماً بل أضحت خراباً، حيث ورد عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله ع، قال: (قال أمير المؤمنين ع: قال رسول الله ص: سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه ، يسمعون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود) ([68])، ولولا هذا الظهور المبارك (للمخلص والمعزي واليماني) لضاع الإسلام وهذا ليس مبالغة بل هذا ما بينته روايات الطاهرين ص عن آخر الزمان ومن شاء فليراجع ما كتبه الأخوة أنصار الإمام المهدي ع بهذا المجال. ومما ورد عن الطاهرين ص: (ومن كتاب سليم بن قيس الهلالي رحمة الله عليه الذي رواه عنه أبان ابن أبي عياش وقراه جميعه على سيدنا علي بن الحسين عليهما السلام بحضور جماعة أعيان من الصحابة منهم أبو الطفيل فأقره عليه زين العابدين ع، وقال: هذه أحاديثنا صحيحة. قال أبان: لقيت أبا لطفيل بعد ذلك في منزله فحدثني في الرجعة عن أناس من أهل بدر وعن سلمان والمقداد وأبي بن كعب، وقال أبو الطفيل: فعرضت هذا الذي سمعته منهم على علي بن أبي طالب ع بالكوفة، فقال: هذا علم خاص لا يسع الأمة جهله ورد علمه إلى الله تعالى، ثم صدقني بكل ما حدثوني وقرأ عليّ بذلك قراءة كثيرة فسره تفسيراً شافياً حتى صرت ما أنا بيوم القيامة أشد يقيناً مني بالرجعة، وكان مما قلت: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن حوض النبي ص في الدنيا أم في الآخرة ؟ فقال: بل في الدنيا. قلت: فمن الذايد عنه ؟ فقال: أنا بيدي فليردنه أوليائي وليصرفن عنه أعدائي. فقلت: يا أمير المؤمنين، قول الله عز وجل: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون"، ما الدابة ؟ قال: يا أبا الطفيل، اله عن هذا ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرني به جعلت فداك. قال: هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء. فقلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: هو رب الأرض الذي تسكن الأرض به. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: صديق هذه الأمة وفاروقها وربيها وذو قرينها. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: الذي قال الله تعالى ويتلوه شاهد منه والذي عنده علم الكتاب والذي جاء بالصدق والذي صدق به أنا، والناس كلهم كافرون غيري وغيره. قلت: يا أمير المؤمنين، فسمه لي. قال: قد سميته لك يا أبا الطفيل، والله لو أدخلت على عامة شيعتي الذين بهم أقاتل الذين أقروا بطاعتي وسموني أمير المؤمنين واستحلوا جهاد من خالفني فحدثتهم ببعض ما اعلم من الحق في الكتاب الذي نزل جبرئيل على محمد ص لتفرقوا عني حتى أبقى في عصابة من الحق قليلة أنت وأشباهك من شيعتي. ففزعت فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا وأشباهي نتفرق عنك أو نثبت معك ؟ قال: لا، بل تثبتون. ثم أقبل عليّ فقال: إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرفه ولا يقربه إلا ثلاثة؛ ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن نجيب امتحن الله قلبه للإيمان. يا أبا الطفيل، إنّ رسول الله ص قبض فارتد الناس ضلالاً وجهالاً إلا من عصمه الله بنا أهل البيت) ([69]). إنّ من الأمور الملفتة التي تدعو للانتباه - ويعدها من أنكر دعوة الحق مأخذاً عليها - وهي والله مزية ومنقبة تتعب من طلبها ومن طمع في إدراكها من غير آل محمد ص تلك هي: إنّ الإمام أحمد الحسن ع في كل الكتب التي خطها بيمينه الشريفة لا يلتفت إلى حجم الكتاب وعدد صفحاته بقدر ما يكون التركيز على الكتابة بلغة بسيطة وواضحة بينة ينتفع بها العالم والمتوسط العلم، ولا أبالغ بالقول إذا قلت ينتفع بها حتى من كان مبتدئاً بطلب العلم، وهذا الأمر على خلاف ما اعتادت الناس أن ترى، إذ اعتادت أن تسمي الرجل عالماً إذا كثرت مؤلفاته وكثرت صفحاتها وصعبت لغتها، وازدادت فيه المصطلحات التي يعقبها شروح وشروح وكأن صاحب الكتاب كتبه ليقال عنه عالماً وليس ليوصل للناس معرفة تجعلهم يتقدموا باتجاه الحق !!! ولعل هذه من الأمور التي تحسب لهذه الدعوة المباركة على الرغم من أنّ البعض ممن استخفه المستخفون يعدها منقصة، وإليك ما ورد عن رسول الله ص وهو الحق، حيث روى: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم، قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول: (قال رسول الله ص: من رأى موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه) ([70])، فهذه الالتفاتة البسيطة أردت أن ألفت إليها لعلها تكون مقربة للحق لمن يطلبه. فالإمام أحمد الحسن ع جاء كما وصف آباؤه ص خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، بل أنه أعاد أمور الإسلام إلى نصابها الحق بعد أن جازف بها المجازفون وأخذوها بعيداً عن صراطها المستقيم، وصدق باقر آل محمد ع بوصف اليماني ع: (يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم) ([71]). * * * -كيف يعرف الناس ربهم ؟؟؟ يعد السؤال عن (كيف) المعرفة أول الأسئلة التي تتبادر إلى ذهن الإنسان وتشكل الإجابة عليه حلاً لمعضل اضطربت بسببه بناءات الفكر الإنساني، وكونه بقي في ساحة المجهول راح الناس يعرضون عن المساس به ويتبنون إجابات تدور حوله بغية تنشيط القدرة على العمل من دون أن يكون هذا السؤال ملحاً في طلب الإجابة، وعلى الرغم من كل ما فعلته البشرية على طول مسيرتها الفكرية إلا أنها لم تستطع تجاوز الاضطراب الذي يشكله ذلك المعضل عن كيفية المعرفة، ذاك أنّ الإنسان مفطور على المعرفة. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([72])، أي لديه كل ما يمكن به أن يكون كما أراده خالقه سبحانه فلماذا لا يكون ؟؟!! إنّ وجوده في هذا العالم الجسماني جعل المعرفة بالنسبة له متعلقة بالأسئلة؛ كيف (جئنا إلى هذا العالم)، وما سبب (وجودنا في هذا العالم)، ولماذا (جئنا إلى هذا العالم) ؟؟؟ وهذه الأسئلة الثلاثة تكشف عن منظومة المعرفة التذكرية (أي المعرفة التي تعين صاحبها على تذكر حاله في عالم الذر عالم النشأة الأولى)، وليست المعرفة الإنشائية (أي المعرفة التي بها أجاب عن سؤال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾([73])، فهذه هي معرفة النشأة الأولى أو المعرفة الإنشائية) - كما توهم نظريات المعرفة البشرية - وتعد معرفة الإجابة عن الـ (كيف) قلب البناء الفكري السليم لدى الإنسان لينطلق في رحلة البحث عن إجابة السؤالين الآخرين. إنّ معرفة الـ (كيف) هي انكشاف لمنهج معرفة مسبب الأسباب الذي تجلى لعباده بالكلمة (الله) مدينة الكمالات الإلهية التي تشكل الأسماء والصفات جهاتها ومعالمها وتجلياتها، قال عيسى ع: (في البدء كان الكلمة) ([74]) والكلمة؛ منهجه الذي كيَّف به سبحانه معرفته وأظهر بالكلمة مدينة كمالاته وأسماء الكمالات وصفاتها، وهذه الكلمة هي الكتاب التكويني - أي الخريطة الكونية إذا صح التعبير - وهي النقطة التي خلق بها الخلق العارف وهو محمد ص، وهو النور الذي صار كتاب الكلمة التدويني، فكان هو نون الفيض النازل ووعاء الفيض من باب الكلمة (الرحمن)، والرحمة هي حجاب الخفق بين محمد ص والذات (الكلمة) التكوينية، ولذا فمحمد ص هو كلمة الله التامة - أي صورة الكلمة التكوينية والصورة حاكية للأصل - وباب فيض هذه الكلمة هو علي ع. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾([75]) وتفصيله في حديث المعراج الوارد عن الإمام الصادق ع ترجمان الكلمة (القرآن) قال: (فأوقفه جبرائيل موقفاً فقال له: مكانك يا محمد - أي هذا هو مقامك، فجبرائيل لا يستطيع الوصول إلى مقام النبي فأشار له بالعروج إلى مقامه - فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قط ولا نبي، إنّ ربك يصلي، فقال: يا جبرئيل، وكيف يصلي ؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي. فقال: اللهم عفوك، عفوك. قال ع: وكان كما قال الله: ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾. قيل: وما قاب قوسين أو أدنى ؟ قال ع: ما بين أسّتها إلى رأسها. قال ع: وكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق، ولا أعلمه إلا وقد قال ع: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى .....) ([76]). قال الإمام أحمد الحسن ع: [الله اسم الذات أو الكمالات الإلهية، والرحمن الرحيم باب الذات، وتترشح من هذا الباب أبواب هي بعدد أسمائه سبحانه وتعالى، وإنما جعل الرحمن الباب الذي تترشح منه أسماء الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يتعامل بالرحمة، ولئلا تشتد المثلات بالخلق الذاكر لنفسه والغافل عن ربه. فالتوحيد بالمرتبة الأولى: معرفة انطواء جميع هذه الأسماء في الذات الإلهية، أي إنّ الله رحمن رحيم والرحمة ذاته، وقادر والقدرة ذاته. ومعرفة أنّ جميع هذه الأسماء مترشحة من باب الرحمة باطنه الرحيم وظاهره الرحمن. ومعرفة أنّ جميع هذه الأسماء غير منفكة عن الذات بل هي الذات عينها. ومعرفة أنّ جميع هذه الأسماء والصفات هي لجهة حاجة الخلق إليها، فوجودها من جهة افتقار الخلق لا من جهة متعلقة به سبحانه وتعالى، بل إنه سبحانه وتعالى تجلى بالذات للخلق ليعرف - كان سبحانه كنزاً فخلق الخلق ليعرف -، ومعرفته سبحانه وتعالى بمعرفة الذات أو الله، وتمام معرفته تكون بمعرفة العجز عن معرفته سبحانه وتعالى عما يشركون، أي العجز عن معرفته في مرتبة الكنه أو الحقيقة، ومعرفة الذات أو الله إنما تحصل من الباب أو الرحمن الرحيم، ولتحصيل هذه المعرفة افتتحت جميع العوالم بهذه الأسماء الثلاثة: الله الرحمن الرحيم، فنجد كتاب الله سبحانه وتعالى بنسختيه المقروءة (القرآن) والكونية (الخلق) قد افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، فالقرآن افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، والخلق - الكون - افتتح بخلق محمد وعلي وفاطمة. وهم تجلي الله الرحمن الرحيم، (وقد بينت في المقدمة أنّ منازل القمر هم آل محمد الأئمة والمهديون، وهم أبواب المعرفة)، قال تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189]، وهذا يبين لك بوضوح علة ورود الحروف المقطعة - كما يسمونها - في الكتاب المقروء - القرآن - بعد البسملة مباشرة وفي أوائل السور، فعلة تقدمها في الكتاب المقروء - القرآن - هو لعلة تقدمها في الكتاب الكوني] ([77]). فالكيف هو منهج المعرفة، والحق سبحانه كيّف معرفته بالرسالة (الكلمة) كونها صفة له، وبالرسول الوعاء الحامل لتلك الرسالة والمرآة العاكسة لصفة الله (الكلمة)، فلولا الرسول لما ظهرت الرسالة، ولولا الرسالة لما كان الرسول، ولا يفترقان أبداً، ولا يتخلف أحدهما عن الآخر فبتخلف الرسالة عن الرسول لا يستبين الرسول ولا يتوضح أمره ، وبتخلف الرسول عن الرسالة تتعطل الرسالة وتكون ساحة للنزاع والخلاف والتناحر، ولذلك كان الرسول موجوداً دائماً مادامت الرسالة موجودة. غير أنّ الذي حصل في أرض الواقع هو أنّ الناس امتحنت في قبول الرسالة والرسول معاً استناداً إلى النظام الإلهي في إيجادهما كونهما كيف المعرفة أو الأخذ بأحدهما والإعراض عن الآخر، وهذا ما حصل، فبحسب ما استبان من موقف الناس من أول بدء الرسالة أنهم لا مشكل لهم مع الرسالة فهم - بحسب ما يزعمون - يعلمون أنها رسالة ربهم، حيث حكى القرآن قولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾([78]). إذن، لا إشكال لديهم بالرسالة، ولكن ثقل عليهم قبول الرسول كونه حاملاً لها، فأفصحوا عن رغبتهم لتجريده مما حمله ربه سبحانه بغياً، ولما خسروا جولة التنزيل، اجتهدوا في أن يخططوا لربح جولة التأويل بوصف أنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾([79]). وورد عن آل محمد ص في بيان هذه الآية الآتي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن موسى بن أكيل النميري، عن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله ع، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، قال: (يهدي إلى الإمام) ([80])، أي يهدي لحامله؛ لأنه الأقدر على حمله وهو الذي يقيمه على حسب مراد ربه سبحانه. وينبغي الالتفات إلى أنّ الأمر نفسه كما كان في زمن التنزيل سيكون في زمن التأويل، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([81])، فللتنزيل كان رسول وهو محمد ص، وفي الآخرين كذلك رسول وهو رسول التأويل، وهو الرسول الذي قال عنه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾([82]). وفي هذه الآية الكريمة والسورة المباركة آيات للمتوسمين، فالسورة اسمها الفتح، والفتح فتحان؛ فتح ملكوتي ويتمثل بعروج الأرواح في ملكوت الله لترى من آيات ربها سبحانه، وفتح في عالم الملك وذلك بقيام دولة العدل الإلهي. قال تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([83])، وكذلك رقم الآية في سورة الفتح هو (28)، وسأنقل للقارئ الكريم ما بينه رسول التأويل في الثماني والعشرين حرفاً وهي أحرف العلم: قال الإمام أحمد الحسن ع: [لقد أُجهد الأنبياء والأوصياء عليهم صلوات ربي في بيان حرفين من المعرفة والتوحيد ولم يقبلها منهم إلا بعض بني آدم بعد اللتيا والتي، والمطلوب اليوم والذي سيصار إليه غداً هو بيان سبعة وعشرين حرفاً من المعرفة والتوحيد. عن أبي عبد الله ع، قال: (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً). والمعرفة والتوحيد التي يمكن لبني آدم تحصيلها هي ثمانية وعشرون حرفاً، حرف منها اختص به آل محمد وهو سرهم, ما أمروا بإبلاغه للناس ولا يحتمله الناس. عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن منصور بن العباس، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير، قال: قال أبو عبد الله ع: (يا أبا محمد، إنّ عندنا والله سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله ذلك أحداً غيرنا ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا. وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حملة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته، ومن نور خلق الله منه محمداً وذريته، وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك [فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه] وبلغهم ذكرنا، فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه. ثم قال: إنّ الله خلق أقواماً لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا: ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة، ليكون ذلك دفعاً عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله بالستر والكتمان عنه. قال: ثم رفع يده وبكى وقال ع: اللهم إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدواً لك فتفجعنا بهم، فانك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبداً في أرضك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً). وعن أبي عبد الله ع، قال: (إنّ أمرنا سر في سر، وسر مستسر، وسر لا يفيد إلا سر، وسر على سر، وسر مقنع بسر). وقال أبو جعفر ع: (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق، من هتكه أذله الله). وقال أبو عبد الله ع: (إنّ أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق ومن هتكه أذله الله). وقال أبو عبد الله ع: (إنّ أمرنا هو الحق، وحق الحق، وهو الظاهر وباطن الباطن، وهو السر، وسر السر، وسر المستسر، وسر مقنع بالسر). وهذه الثمانية والعشرون حرفاً من العلم والمعرفة هي على عدد منازل القمر، أربعة عشر قمراً وأربعة عشر هلالاً كما هي في الشهر، وهم حجج الله وكلماته التي تفضل بها على العالمين والحج الأكبر. الأقمار الأربعة عشر هم: (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن ومحمد صلوات الله عليهم). أما الأهلة فهم: (اثنا عشر مهدياً ولأولهم مقامان: مقام الرسالة ومقام الولاية، فيكونون ثلاثة عشر، ومعهم ابنة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فيكونون أربعة عشر). والأهلة منهم هم علامات الساعة والقيامة ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. واليوم الباقي من الشهر هو يوم غيبة الهلال والقمر، وهو عند الله ألف سنة وبعض الألف سنة ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾. وهي موافقة لغيبة الإمام المهدي ع كما هو معلوم، فلابد له أن يغيب اليوم وبعض اليوم لتتم كلمة الله، ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً﴾، وتتم أيام الله بالوصول إلى اليوم الأخير. وهذا اليوم وبعض اليوم (يوم الغيبة) يمثل الحرف المخزون المكنون عند الله الذي لم يخرج منه إلى غيره، ولا يعلمه أحد من خلقه، وهو سر غيبة الحقيقة والكنه، وهو واو (هو). أما هاء (هو) فهي الثمانية والعشرون حرفاً التي لا يعلمها بتمامها إلا آل محمد ص، وهي سرهم كما قدمت. فالمطلوب - وهو التوحيد الحقيقي - معرفة الاسم الأعظم الاثنين وسبعين حرفاً، وهي باطن الثمانية وعشرين حرفاً، ليعرف بها العبد أنه عاجز عن المعرفة من دون الحرف الباقي، فلا يبقى إلا العجز عن المعرفة، فلو عرفت م ح م من اسم محمد هل يقال إنك تعرف محمداً ؟ أم يقال إنك لا تعرف محمداً ؟ بل غاية ما تعرفه حروفاً من الاسم ولا يعرف الاسم إلا بكل حروفه] ([84]). ولو تدبرنا العبارة الأخيرة من قول يماني آل محمد ص: (فلو عرفت م ح م من اسم محمد هل يقال إنك تعرف محمداً ؟ أم يقال إنك لا تعرف محمداً ؟ بل غاية ما تعرفه حروفاً من الاسم ولا يعرف الاسم إلا بكل حروفه) ([85])، ولو انتبهنا إلى تسليمنا الذي تعلمناه من آل محمد ص: السلام على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها، وربطناه بما بينه الإمام أحمد الحسن ع، تكون الـ (م) الأولى من اسم محمد ص هي نظير الألف في أحمد ع وهو يرمز إلى فاطمة (عليها السلام) في قوله تعالى: ﴿ألم﴾([86])، والحاء من اسم محمد ص هو نظير اللام الدال على علي ع حيث ورد عن أمير المؤمنين ع قوله: (أنا حاء الحواميم) ([87])، والميم هو الحرف الدال على محمد ص، ولو انتبهنا إلى أن الميم في اسم محمد ص مضعف أي مكرر ولعل هذا التضعيف أو التكرار دال على (بنيها) ذرية محمد ص، ويبقى السر في حرف الدال، فما لم يتبين حرف الدال تبقى المعرفة بمحمد ص معرفة ناقصة. وبالعودة إلى ما روي عن آل محمد ص في شأن القائم ع وأنّ له اسمين؛ اسم يخفى واسم يعلن نعرف أنّ لحرف الدال من اسم محمد ص ظاهر وباطن؛ اسم يخفى واسم يعلن في إشارة إلى رواية طويلة نأخذ منها محل الشاهد: عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جده ع، قال: (قال أمير المؤمنين ع على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان أبيض مشرب حمرة مبدح البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان: شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي ص، له اسمان: اسم يخفى، واسم يعلن، فأما الذي يخفى فأحمد وأما الذي يعلن فمحمد، فإذا هز رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ....) ([88])، وبمعرفتنا للاسم الذي يخفى نشرع بمعرفة محمد ص معرفة تؤهل هذه الأرض إلى أن تكون خليقة بإقامة دولة محمد ص عليها لتتحقق الغاية من الخلق في هذا العالم كما تحققت في العوالم العلوية. غير أنّ الواقع المعاش للبشرية وخصوصاً في هذا الزمان قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقفزوا على مقام الرسول وفرقوا بين القرآن وصاحبه وادعوا التمسك بالرسالة بمعزل عن الرسول، لا بل ذهبوا بعيداً بالادعاء أن لا حاجة للرسول بعد كمال تنزيل الرسالة وتمامها، وهم يعلمون أنّ هذا القول فيه مصادرة واضحة؛ لأنهم افترضوا أنّ الله سبحانه ترك لهم سبيل العمل بالرسالة على وفق ما يتواضعون عليه، ذاك أنّ الثابت الذي لا جدال فيه أنّ لكل زمان حيثيات هي غيرها فيما سبق، وهذه الرسالة الخاتمة قادرة على التعامل مع كل الحيثيات تلك وإيجاد الحلول لما يستجد من المشاكل، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾([89]). ولكن من القادر على استنباط تلك الحلول من الرسالة ؟؟!! الأمر الأكيد الذي لا يختلف فيه العقلاء: إنّ القادر هو من أنيط به مسؤولية حمل الرسالة في ذاك الزمن، ذاك أنه لا يوجد زمان يخلو من حامل للرسالة، ومجرد تصور أو افتراض لأمر كهذا يعني أنّ الله سبحانه ضيع رسالته، وتعالى الحكيم عن ذلك علواً كبيراً، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾([90]). لعل مما أنيط بالتنزيل هو بيان أنّ ألفاظ الرسالة ما هي إلا رشحات من معانيها، وأنّ المقصود هو أن يكون النظر مصوباً إلى معاني كلمات الله فيها، وما الألفاظ في الرسالة إلا سبيل من سبل الاختبار للناس، هل سيتجرؤون على كلمات الله ويزنونها بموازينهم الناقصة أو أنهم سينتبهون ويزنونها بميزان الله الكامل، إذ الثابت عندهم أنّ القصد الإلهي لا يعلمه إلا من جعله الله سبحانه قائماً بهذا الأمر حيث يقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([91])، فمن المحال أن يترك الرب الحكيم سبحانه ذكره هكذا من غير رجل من أهله قائم به حافظ له مبين له، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾([92]). وهذا ما يكشفه القرآن بوضوح تام، حيث قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾([93])، وهنا الآية توجه الخطاب إلى مخاطب حاضر وليس غائباً، وربما يقول قائل إنّ الخطاب هو لمحمد ص! نعم هو لمحمد ص في زمن التنزيل فبعد اكتمال زمن التنزيل من هو المخاطب به الذي يقوم مقام رسول الله ص ؟! أو يقولون أنّ الآية ماتت بموت رسول الله ص ؟؟!! إذن، لابد من وجود مخاطب بالآية، فهذا القرآن يجري في الناس مجرى الجديدين؛ الليل والنهار، فإن الناس كانوا في زمن محمد ص إذا اشتبه عليهم أمر في القرآن هرعوا إلى رسول اللهص ليحكموه فيما شجر بينهم، فلمن يهرع الناس بعد رحيل رسول الله ص من هذا العالم في كل زمان ؟؟!! إذ أنّ الاختلاف قائم بين الناس في كل زمان وليس منحصراً في زمن النبي ص. ورد في تفسير العياشي: عن عبد الرحيم القصير، قال: (كنت يوماً من الأيام عند أبي جعفر ع، فقال: يا عبد الرحيم. قلت: لبيك، قال: قول الله: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" إذ قال رسول الله ص: أنا المنذر وعلي الهادي، من الهادي اليوم ؟ قال: فسكت طويلاً ثم رفعت رأسي فقلت: جعلت فداك هي فيكم توارثونها رجل فرجل حتى انتهت إليك، فأنت - جعلت فداك – الهادي. قال: صدقت يا عبد الرحيم، إنّ القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين. وقال عبد الرحيم: قال أبو عبد الله ع: إنّ القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا) ([94]). ولعل مناط التأويل هو إثبات مفاهيم الرسالة لمصاديقها، ولقد تحققت المرحلة الأولى على يد رسول الله ص وبين من معاني ألفاظ الرسالة ما يحتاجه أهل زمانه وأرسى دعائمها، ولكن ما حصل هو انقلاب سواد الأمة على مرحلة التأويل، والعمل على تعطيل تلك المرحلة ومحاولة طمس معالمها، ولذلك كان لابد من وجود عقيدة المهدي ع لإعادة الحياة لتلك المرحلة المعطلة منذ رحيل رسول الله ص إلى زمان ظهور المهدي ع ومن ثم فالذين يقولون إنّ المهدي ليس عقيدة في الإسلام إنما هم امتداد لنهج الانقلاب؛ لأن غاية الإنقلابيين هو تحقيق الزعم الأول الذي فشل الناس في تحقيقه في مرحلة التنزيل وهو التفرد بالرسالة وعزلها تماماً عن القائم بها. ولذلك ليس اعتباطاً تلك الحركة التي قام بها عمر بن الخطاب عندما حاول منع رسول الله ص من كتابة الكتاب الضامن للأمة من الضلال، فقال قولته المفجعة بحق رسول الإنسانية وسيد البشر محمد ص عندما اتهمه - وحاشاه ألف حاشاه من ذلك - بالهجر، وصاح: (حسبنا كتاب الله)، وهو يعني ما ثبت تنزيلاً (ألفاظ الرسالة وبعض معانيها التي بينها الرسول ص). وهذه رواية البخاري التي عندما ذكر لفظة (هجر) ذكرها بصيغة الاستفهام ولم يذكر من قالها، وفي موضع آخر عندما يروي نفس الرزية ويذكر فيها بدل (هجر) مفردة (غلبه الوجع) يصرح بأن القائل هو عمر !! وللقارئ اللبيب أن يتفكر فيما يفعله رواة الحديث ونقلته من تعمية للحقائق حتى لا تنكشف حقائق سادتهم حتى وإن كانت هذه التعمية فيها إساءة واضحة لشخص الرسول الكريم ص. يروي البخاري في صحيحه قائلاً: (حدثنا: محمد، حدثنا: ابن عيينة، عن سليمان بن أبي مسلم الأحول سمع سعيد بن جبير، سمع ابن عباس يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت: يا أبا عباس ما يوم الخميس ؟ قال: اشتد برسول الله ص وجعه فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له أهجر إستفهموه. فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه. فأمرهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم والثالثة خير إما إن سكت عنها وإما إن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان) ([95]). وهذا نص آخر للخبر وناقله البخاري أيضاً في صحيحه: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: اتئوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا من بعده. قال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه) ([96]). ولم يلتفت هو من سار خلفه بتلك الصيحة التي لا مبرر لها بل وفيها مخالفة صريحة لنص قرآني ذاك هو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾([97])، أنهم لولا الرسولص لما عرفوا سبيلاً إلى بيانه، ولذا فهم بفعلهم ذاك تحملوا تبعات ذلك التعطيل فمن جاء بعدهم من الأمم ووجد النهج هو (حسبنا كتاب الله) وأنّ الكتاب بلا راع حريص على رعايته وتعهده، بالغ في الذهاب بعيداً في تقويل نصوص الرسالة فوقع بذلك الخلاف والتناحر والتباغض والإحن والشحناء وسالت الدماء أنهاراً !!! وكل هذا التعطيل وتلك الدماء وقعت في رقبة من أسس لسقيفة الانقلاب وخطط لنهجها. ولذا كان لابد من انتظار من يعيد الحياة لمرحلة التأويل المعطلة، وبيان أنّ لمفاهيم القرآن مصاديق تتحرك على أرض الواقع ليترجم الكتاب إلى واقع عمل يكشف عن الغاية من نزوله من عليائه إلى العالم الدنيوي، ذاك أنّ الغاية منه وهي العبادة تكاد تكون معطلة تماماً بغياب القائم بالتأويل بوصفه العارف الوحيد المعين من الله سبحانه مترجماً لكتابه. وأما غيره من الناس فلا يوجد أحد له الحق في المجازفة بترجمة الكتاب إلى واقع عملي، بدليل ما حصل من أنّ كل الذين حاولوا تلك المحاولة البعيدة عن الحكمة وقعوا في شر الأعمال ألا وهو جعل الأمة طرائق قدداً. قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([98]). ومضت أجيال من الأمة على سبيل الضياع هذا وهي تحسب أنها تحسن صنعاً، واجتهدوا كثيراً في وضع ضوابط لمن يحق له مقاربة الرسالة ومحاولة ترجمتها، ولكنهم على الرغم من كثرة تلك الضوابط فشلوا فشلاً ذريعاً، ووصلوا إلى الحال الذي يريدون به رأب الصدع الذي استحال شرخاً فاضحاً ولكنهم إلى الآن يتكبرون على الحل الإلهي ويعمدون إلى آرائهم وتصوراتهم وتخيلاتهم للحل الذي لا يزدادون من خلال السير خلفه إلا بعداً عن سبيل الله وازدياد الفضيحة. حتى وصلوا إلى النقطة الحرجة، فامتدت يد الرحمة الإلهية إلى الناس لإنقاذهم من الهلاك فبعث الله سبحانه لهم من يصحح المسار ويعيد الحياة إلى ساحة التأويل التي عبث بها العابثون، وعملوا على تغيير ملامحها الإلهية، واستبدالها بملامح بشرية لم تستطع ملأ الفراغات الكثيرة التي ملأت أذهان الناس وهي لا تدري أين الحل الإلهي الصحيح ؟؟!! فصار حال تلك الملامح مفضوحاً، فهي كمن ألبس الحقيقة ثوباً ضيقاً انكشف به زيف الخياط وخداعه فاتسع الفتق وما من راتق - كما يقال - وبإعلان عجز البشرية وفشل مشروعها بصناعة مترجم للقرآن ظهر أمر الله سبحانه، وأعلن مترجم القرآن عن نفسه في هذا الزمان، إيذاناً بغلق صفحة المترجمين المزيفين بانكشاف زيفهم، وفتح صفحة مترجمي الحق. وأول ملامح الفضيحة لأولئك هو إعراضهم عن مناظرة من أعلن عن أنه المترجم الحق للنص الإلهي، ولما رآهم أعرضوا أمعن في فضحهم وكشفهم للناس وبيان خداعهم فراح يبين متشابه القرآن ليجعل التحدي بالنسبة لأولئك أكثر صعوبة وأشد ضغطاً، وصار الواجب على الناس أن يهرعوا إلى أولئك الذين يدعون أنهم مترجمون للقرآن كي يردوا على ما يقوله يماني آل محمد ع، وما أصدره من بيان للمتشابه، ويظهروا علمهم إن كان لديهم علم، وليكن الميزان كما وضعه الله جل وعلا: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾([99]). ولقد بيّن يماني آل محمد ع هذا الأمر ببيان شاف هذا نصه في إجابته على سؤال ورد إليه من أحد السائلين: [سؤال/ 8: ما معنى الحديث القدسي: عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله ص، عن الله سبحانه: (يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما). الجواب: محمد ص تجلي الله، وعلي تجلي الرحمن، وفاطمة تجلي الرحيم في الخلق. فكل الموجودات مشرقة بنور الله في خلقه، وهو محمد ص، وباب إفاضة هذا النور الإلهي هما: علي وفاطمة (عليهما السلام)، قال تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وعلي ظاهر هذا الباب، وفاطمة باطن الباب، كظهور الحياة الدنيا وشهودها بالنسبة للإنسان فيها، وغيبة الآخرة وبطونها بالنسبة له أيضاً. وعلي وفاطمة أو الرحمن الرحيم بينهما اتحاد وافتراق، كاتحاد زوجين متحابين: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. واسمين يدلان على معنى واحد. أما افتراقهما، فمن جهة سعة الرحمة في الرحمن وشمولها، وضيق الرحمة في الرحيم وشدتها، فالرحمن أو علي ع له جهة اختصاص مع هذه الحياة الدنيا، فسعة الرحمة في الرحمن شاملة للجميع، كما أنّ الفيض النازل من ظاهر الباب يشمل الجميع، المؤمن والكافر، كما في الدعاء: (يا من يعطي من سأله، ويا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة). أما في الآخرة فهو قسيم الجنة والنار، باعتبار ارتباط الموجود به، وافتراقه عنه في هذه الحياة الدنيا، لا باعتبار الآخرة. أما الرحيم أو (فاطمة)، فلها جهة اختصاص مع الآخرة ، فهي التي تلتقط شيعتها - أي أهل الحق والتوحيد والإخلاص لله سبحانه - يوم القيامة، وهم الحسن والحسين والأئمة، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ص، والأنبياء والأوصياء، ومن دونهم من المخلصين، ولذا قال فيها رسول الله ص: (فاطمة أم أبيها)، فالأم هي الأصل الذي يرجع إليه، ولذا قال فيها الحسن العسكري ع ما معناه: (نحن حجة الله على الخلق وفاطمة حجة الله علينا). فلولا محمد لما خلقت السموات والأرض؛ لأنها خلقت من نوره، ولولا علي لما خلق محمد، فلولا علي لما عرف محمد ص، فهو بابه الذي منه يؤتى ومنه (أي الباب أو علي) الفيض المحمدي في السموات والأرض يتجلى، ولولا فاطمة أو باطن الباب، أو الآخرة لما خلق محمد وعلي، فلولا الآخرة لما خلق الله الخلق، ولما خلقت الدنيا] ([100]). إنّ معرفته سبحانه تعني إجابته إلى التخلق بأسمائه الكمالية وصفاته الجمالية والجلالية عن طريق التعلق بالأسباب التي جعلها الله سبحانه حبلاً متصلاً بين الأرض والسماء، وهذا التعلق يتطلب من الناس أن يسلموا الأسباب معاصمهم ويتمسكوا بعروتها تمسكا على قوته وشدته يدلل على عمق تلك المعرفة ونجاعتها. إنّ الاعتصام بالعروة الوثقى في كل زمان يكون من خلال سماع ما يفيض من لسانها من الحكمة وتحويله إلى منهاج عمل وسعي، قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾([101]). وفيها قال يماني آل محمد ع: [ففي ذلك العالم كان جميع بني آدم مختارين، وكل واحد منهم يمتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكل واحد بإرادته قـَصَرَ نظرَه على النور، فأصبح من المقربين، أو على الظلمات، فأمسى من أصحاب الجحيم. فالأنبياء والمرسلون والأئمة ص هم الذين اختاروا الله سبحانه، وقصروا نظرهم على النور فاصطفاهم الله سبحانه] ([102]). وفي نفس السياق ذكر ع قائلاً: [تعلموا تعاليم الأنبياء، واعملوا بها، فسيرى الله عملكم ورسوله والأئمة والأنبياء والمرسلون وعباد الله الصالحون ص، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النجم: 39 – 41]، وتيقنوا فباليقين يأخذ ابن آدم ويغترف من رحمة الله، هكذا قال نوح النبي وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى المسيح ومحمد عبد الله والأئمة الأطهار ص: (خذ على قدر يقينك)، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فباليقين أولياء الله يُحيون الموتى ويُشفون المرضى، واعلموا أيها الأحبة أنّ اليقين مفتاح باب الله الأعظم. فمن تيقن أن لا قوة إلا بالله أصبح في عينه الفراعنة (أمريكا وأذنابها الأراذل) أهون من الذبابة وأحقر، وكيف لا تكون كذلك في عين من ينام في كهف الله الحصين] ([103]). قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾([104]). فإذن معرفة الناس في هذا العالم الجسماني ينبغي أن يكون لها أثر وهو العمل الصالح ولا يوصف العمل بـ (الصالح) إلا إذا كان تحت إشراف معلم صالح يرسم للعاملين شريعة صالحة، وذلك العمل الصالح هو تعبير عن الحكمة، وإجابة عن السؤال بـ (لماذا)، وإجابة عن المعرفة المتعلقة بالحكمة من جريان الأسباب على النهج الذي تجري به. ومن البديهي لدى الإنسانية أنها بعد أن تمر في فترة من الركود في المعرفة الإلهية، والانشغال بالمعرفة المادية إلى حد الافتتان بها فهي نفسياً تتهيأ لمعلم سماوي، إما أن يكون مرسلاً من السماء مباشرة، أو بواسطة الأرض، هذا كان ديدنها منذ المعلم الأول على هذه الأرض نبينا آدم ع معلم البشرية الأول في هذا العالم، وجاءت من بعده الرسل والأنبياء تترى، وامتاز بعث الرسل أولي العزم ص بأنهم كانوا يبعثون على فترات، أي في الأزمان التي يتوهم فيها الجبت والطاغوت أنه نجح في ترويض البشرية كي تعمل بنهج المعرفة البشري القائم على قاعدة (إنّ المادة هي الأصل). وإذا ما شئنا البيان؛ فهو قائم على قاعدة الجور والظلم، ولذلك أتى أولوا العزم إلى أقوام كانوا يدّعون انتظارهم، ولكن هذا الادعاء سرعان ما تنكشف حقيقته من أنه انتظار كاذب، الغاية منه طول الأمل لدى العامة يقابله زيادة الحرص والشح لدى الخاصة. ولذلك فسرعان ما يصطدم الخاصة مع المبعوث السماوي؛ لأنهم يعلمون أنّ ظهوره يعني كشف زيفهم في تكييف عقيدة الانتظار، وتوهيمهم الناس بضرورة الانتظار على وفق المنهج الذي وضعوه لكي يبقى العامة بقرة حلوباً تدر في أفواه الخاصة لاهية عن ضرعها المنتهب بالنظر صوب الجهة التي أرشدها لها أولئك كي يأتي المنقذ ويخلصها مما هي فيه من الاستعباد السقيم. وطول الانتظار هذا يجعل الناس يعتادون حال السقم تلك، بل ويشفون على الهلاك في ظلمة الجهل المقيت ويرضون بها وكأنهم ملوا انتظار المنقذ أو أنهم يئسوا من قدومه، وشيوع تلك الحال هو في واقعه إيذان لبعث المنقذ بنهج الصلاح الذي تناسته البشرية وغفلته إلى حد صار الحديث عنه ضرباً من الأوهام التي لا يألفها الواقع المريض للناس عموماً. ومع كل منقذ تبدأ الرحلة ويبدأ الصراع من تلك النقطة، كيف نعرف الغيب وما السبيل إلى معرفته ؟؟ ويبدأ عمل المرسلين بتطهير القلوب لأنها وعاء الإيمان ومستقر المنهج الإلهي، ومن دون تهيئة القلوب لن ينجح المعلمون في إعداد حملة لرسالة السماء ونهجها ومن ثم التعلق بأسبابها ومعلميها والإيمان بهم وبرسالاتهم، والعمل بين أيديهم على وفق متطلبات توجيهاتهم المستمدة من رسالاتهم وشرائعهم. ذاك أنّ عمل السنين الطوال لطمس التعلق بالغيب يفشله مشروع المنقذ حال ظهوره؛ لأنه يأتي حاملاً النور الذي يطهر النفوس من ظلمتها ويعيد لها وشائج التعلق بالغيب من جديد بعد أن حاول المنهج المادي إشاعة الظلمة في جهة الغيب، وتحويل الإضاءة باتجاه المادة لإيهام الناظرين أنّ الانشغال بالغيب باعث على الإغراق في الوهم والخيال الذي لا طائل منه، بينما الالتفات للمادة ومباشرتها تكييفاً وتسبيباً هو الواقع الذي نعيشه، ولا مناص من ذلك. ويعمل أهل هذا النهج على تسخير كل إمكاناتهم وطاقاتهم في هذا السبيل كي يصرفوا الناس عن النظر إلى الغيب وفيه، وعلى طول تلك الرحلة لم ينجح الماديون في طمس المنهج الغيبي في النفوس، وسرعان ما ينجح المبعوث في استقطاب القلوب التي أصرت على رفض المنهج المادي، وتعاطت معه تعاطي المضطر الذي لم ينفك من الدعاء، وأولئك المضطرون هم دائما الذين يكون فرحهم بالمبعوث عظيماً، واستقطابه لهم شديداً. وغالباً ما يكون أولئك المضطرون من المجهولي القدر بين الناس حتى يعبر عنهم الناس بأنهم (أراذلهم بادي الرأي)، وتلك الصفة الذميمة التي يلصقها بهم الخاصة ومتبعيهم من العامة هي من باب توهين نهج الغيب الذي جاء به المبعوث، ومحاولة إبعاد العامة عن الاقتراب إليه والتعاطي معه بحجة أنّ هذا المنهج الذي إن سلكوه فسوف يكون عليهم وبالاً، ويسوء حالهم أكثر مما هم فيه من سوء. ولذلك نرى العامة غالباً ما تحجم عن الانضمام إلى قافلة المنقذ على الرغم من أنها تحتاج إليها أشد من احتياجها للماء والهواء، إلا أنها تنظر لها بعين الريبة كونها لا تتحمل سوءاً أكبر من هذا الذي تعيشه، وما يجعل هذا الهاجس لديها يكبر هو أنهم عندما ينظرون إلى حال أتباع المنقذ يجدون ظاهره أسوء من حالهم بل ظاهر حالهم يشكل لهم مصدر قلق من شدة العنت الذي يعانيه أتباع المنقذ من الخاصة وأتباعهم. ويستغل الخاصة هذا الشعور الظاهر في نفوس العامة استغلالاً بشعاً، وذلك من خلال العمل بسياسة الترغيب من خلال استدراجهم بالمال والطعام، والترهيب من خلال رفع العصا الغليظة بوجه كل من يتمرد على الخاصة ويتوجه إلى المنقذ، فضلاً على أنّ الغيب يقيم نهجه على تمحيص أتباعه ليجعلهم مخلصين بالتوجه إليه هو دون النظر إلى ثمار ذلك الاتباع. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾([105]). لأن صاحب الثمر هو أهم وأعظم من الثمار التي يمكن اجتناؤها من السير في سبيل المنقذ، وعلى العكس من ذلك السير في سبيل المنهج المادي فإنه يجعل السائر مشدوداً إلى النظر إلى الثمار وكمها، ذلك لأن صاحب الثمار من القباحة بحال لو التفت إليه السائر لاستقبح الثمر استقباحاً لصاحبه، بل إنّ ما يتوهمه ثمراً هو زخرف وحقيقته عراق خنزير بيد مجذوم (بحسب وصف أمير المؤمنين ع) ([106])، ولقد عمل المنهج المادي على إخفاء يد المجذوم الذي يقدمها وتمويهها، فضلاً على أنه يقدمها بزخرف يشتت النظر ويعمل على صرفه عن حقيقة هذا العطاء وحقيقة من يعطي. أما نهج الغيب فهو يستند إلى توجيه الإنسان إلى النظر إلى صاحب العطاء لا إلى العطاء؛ لأن صاحب العطاء هو نبع العشق وأصله، ولذلك يكون نهج المنقذ في التربية مركزاً على تلك الحقيقة خوفاً من أن يتعلق قلب الإنسان بالثمار التي تستحيل حجاباً يمنعه من النظر إلى اليد والوجه الجميل لصاحب تلك الثمار الطيبة. ونجاح المنقذ في بيان تلك الحقيقة يمكنه من إنقاذ المتبعين من متعلقات المنهج المادي، بل يعد ذلك إعلاناً عن نجاح المنقذ في تكليفه الإلهي، ولذلك يكون المنقذ أشد بلاء من المتبعين، وأكثرهم خوفاً من الله سبحانه من التقصير في أداء التكليف الإلهي. قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾([107])، وهذه الآية الكريمة بعد نزولها لم يرَ رسول الله ص بعدها ضاحكاً، بل وقيل أنها شيبت رسول اللهص؛ لأن تلك الرسالة الإلهية كلفت رسول الله ص بالاستقامة وهذا التكليف يخصه وكان يمكنه ذلك، ولكن الأمر الصعب المستصعب هو ضمان استقامة الذين تابوا معه. ولذلك فهو يجد ويجتهد إلى جعل نظر متبعيه مصوباً باتجاه جهة العطاء، لا باتجاه العطاء، ورد عن إسحاق بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، قال: سمعت أبي جعفر بن محمد ع يقول: (أحسن من الصدق قائله، وخير من الخير فاعله) ([108]). ولو نلتفت إلى أنّ تلك التربية العظيمة هي التي تخلق الحب والألفة بين المؤمنين المتبعين ذاك أنهم يتعلقون بواحد أحد وهو المعطي الحق. أما لو أنهم التفتوا إلى ذات العطاء فلاشك ولا ضير في أنّ الخلاف واقع بينهم؛ لأن النفس الإنسانية مجبولة على التحصيل أكثر، وكثر التحصيل (الكمي) يستدعي التزاحم والتنازع. قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾([109])، وهذا التكاثر لاشك في أنه مصدر إلهائهم عن النعيم وهو (ولي الله والسبب الممدود بين الأرض والسماء). وسبب لهوهم هو جهلهم وتلك المنطقة هي الثغرة التي يتمكن الشيطان (لعنه الله) من مد خرطومه ليبدأ الوسوسة التي تجعل السائر في النهج الإلهي على خطر عظيم، أما العمل على التحصيل النوعي فهو المراد لأنه لا يستلزم تزاحماً ولا نزاعاً، لأن ذلك التحصيل لا تحكمه قاعدة التكاثر والتحصيل الكمي المادي، بل ما يحكمه نوع التحصيل الذي يبدأ بالتخلي لا بالتكثر، ومن ثم بالتحلي بكمالات روحية تنأى عن كل ما هو مادي، ومن ثم تستحق بذلك أن تكون وعاء النور الحق. وهذا النوع يحدده إخلاص العامل بالمنهج الغيبي، والإخلاص متعلق بالسبب الرابط بين العبد وربه ولا يطلع عليه أحد غير الرب سبحانه، حتى العبد لا يطلع على نوع الإخلاص كي لا ينشغل عن ربه سبحانه بما سواه، فالمسير إلى الله سبحانه محفوف بالبلاءات الصارفة، وتلك البلاءات ظاهرها يجتذب النظر، وتثبيت النظر على الأصل يحتاج إلى مجاهدة عظيمة، وصراع مع الأنا البشرية مستمر لا مجال لأن يتوقف إلا بالموت، وأي غفلة كفيلة بإسقاط العبد في حبائل الأنا ومن ثم جعله لقمة سائغة بفم الشيطان (لعنه الله). ولذلك كان السؤال الأول في نهج تأويل المتشابه وإحكامه متعلق بالكيفية، متعلق بالإيمان بالغيب ومنهج هذا الإيمان ومعلمه فالسؤال كان يتعلق بحديث أهل البيت ص عن كيفية المعرفة، حيث ورد عن أبي عبد الله ع، قال: (قال أمير المؤمنين ع: اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان) ([110]). وكانت الإجابة عليه بأسطر قليلة، نصها: [أي اعرف الله سبحانه وتعالى بالله في الخلق، وهو الإمام المهدي ع، فهو صلوات ربي عليه تجلي وظهور الله في الخلق، أي تجلي وظهور مدينة الكمالات الإلهية في الخلق. وبعبارة أخرى: تجلي وظهور أسماء الله سبحانه في الخلق. فهو صلوات ربي عليه وجه الله سبحانه وتعالى الذي يواجه به خلقه، فمن أراد معرفة الله سبحانه لابد له من معرفة الإمام المهدي ع] ([111]). ولقد كشفت تلك الأسطر عن الإطار النظري والسبيل العملي في معرفة الله سبحانه، ذاك أنّ الله سبحانه قال في الحديث القدسي الشريف: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف) ([112])، وكان الخلق الأول إنسان به عرّف الله سبحانه نفسه، حيث ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: (سألت رسول الله ص: أول شيء خلق الله ما هو ؟ قال رسول اللهص: نور نبيك يا جابر ومنه خلق كل خير) ([113]). وورد عن الإمام الصادق ع في رسالته الجوابية إلى المفضل بن عمر ما نصه: (ثم إني أخبرك أنّ الدين وأصل الدين هو رجل، وذلك الرجل هو اليقين وهو الإيمان وهو إمام أمته وأهل زمانه فمن عرفه عرف الله، ومن أنكره أنكر الله ودينه، ومن جهله جهل الله ودينه وحدوده وشرايعه بغير ذلك الإمام كذلك جرى بأن معرفة الرجال دين الله والمعرفة على وجهه معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين الله ويوصل بها إلى معرفة الله فهذه المعرفة الباطنة الثابتة بعينها الموجبة حقها المستوجب أهلها عليها الشكر لله) ([114]). إذن، معرفة الإمام المهدي ع هي معرفة لقانون الله سبحانه الذي من خلاله يعرف حجة الله سبحانه، فلولا وجود الحجة الإلهية ما كان ليستبين المنهج الإلهي والقانون الإلهي في معرفة الحجة، ومن ثم معرفة الله سبحانه، فمن الثابت أنّ الله سبحانه غيب مطلق، ولا يمكن للخلق أن يعرفوا ربهم إلا من خلال خليفته الذي هو صورة له وتجلٍّ لأسمائه الحسنى، فحجة الله هو صورة لمدينة الكمالات الإلهية، وتلك المدينة هي مركز المعرفة التي لولاها ما كان الخلق. وتلك المعرفة هي الكاشفة عن ثمرتها، وثمرة المعرفة هي الحب الإلهي الحق، وينبغي الالتفات إلى أنّ المعرفة الحق لا تجعل فاصلاً بين النظر والعمل بل تماهي بينهما حتى لا يستبين الفارق بينهما بل أنها تجعل من العمل سبباً في بدء تلك المعرفة، وتجعل من النظر إطاراً لها، وجواب السيد اليماني ع اختصر طريق المعرفة على السائرين فيه عندما قدم لهم الجواب بخير الكلام القليل الدال، ويختزن تحته قانون معرفة حجة الله سبحانه الذي لا يمكن لمن له أيسر ظل للعقل أن يجادل فيه أو يماري. فالقانون إنما صار قانوناً ليطاع لا ليمارى فيه، أو يجادل به؛ لأن الجدال في القانون هو دليل المماراة الكاشفة عن الجهل المركب أو الجحود بأوضح صوره ومعانيه. وبذلك توضح كيف المعرفة من خلال هذا القانون أنّ الداعي أو المدعي كونه مترجماً للرسالة الإلهية لابد أن يكون معيناً من الله مباشرة أو بإذن الله على يد حجة من حججه السابقين هذا أولاً. وثانياً: يعلن تحديه بإظهار علمه وقدرته على ترجمة الرسالة الإلهية على وفق مراد الله سبحانه. وثالثاً: أنه يدعو الناس لطاعته بأمر الله ولا يعذر من تخلف عن ذلك أبداً كونه خليفة من خلفاء الله سبحانه، ومن تخلف عنه فقد تخلف عن الله سبحانه. وهذا ما كشفته رواية اليماني الواردة عن الإمام الباقر ع، قال ع: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كل وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى؛ لأنه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكل مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإن رايته راية هدى، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار؛ لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم) ([115]). إنّ قول الإمام الباقر ع (وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى) بيان واضح أنّ اليماني هو صاحب دعوة إلهية إذ لا يوجد هدى في غير الدعوات الإلهية مطلقاً، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾([116])، وصاحب الدعوة رسول، فاليماني ع لابد أن يكون في عنوان من عناوينه رسولاً. كذلك وضع الإمام الباقر ع قيداً واضحا لشخصية اليماني ذاك هو (ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار)، وهذا يعني أنّ اليماني هو بمقام الحسين ع حيث ورد في ثواب الأعمال: ابن إدريس، عن أبيه، عن الأشعري، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم، عن أبيه، عن أبي الجارود، عن عمرو بن قيس المشرقي، قال: (دخلت على الحسين صلوات الله عليه أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل، فسلمنا عليه فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله، هذا الذي أرى خضاب أو شعرك ؟ فقال: خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل. ثم أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي ؟ فقلت: إني رجل كبير السن كثير الدين كثير العيال وفي يدي بضايع للناس ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي. وقال له ابن عمي مثل ذلك، قال لنا: فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سواداً فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقاً على الله عز وجل أن يكبه على منخريه في النار) ([117])، والواعية هي الدعوة وهي الراية، والحسين ع حجة إلهية منصوص عليه، واليماني بقول الباقر ع لابد أن يكون حجة إلهية منصوص عليه، ولذلك احتج اليماني بنص وصية رسول الله ص. والقيد الثالث الذي تبينه رواية الإمام الباقر ع هو أنّ اليماني لابد أن يكون معصوماً بدليل هذا القيد (لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم)، ومن يكون هكذا حاله فهو معصوم، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([118])، ولا جدال بين المسلمين في عصمة كتاب الله سبحانه، وقد استبانت عصمته كونه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وهذه نفسها حال اليماني ع، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾([119]). ولذا كانت روايات الطاهرين ص التي احتج بها يماني آل محمد ع يعضد بعضها بعضاً ويبين بعضها بعضاً، ويعلن بعضها عن تعلقه ببعضها، مصداقاً لقوله جل وعلا: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾([120])، فكما هو القرآن يعضد بعضه بعضاً فكذلك روايات الطاهرين ص في اليماني ع رسول التأويل، كما كان جده رسول اللهص رسول التنزيل. إذن، الكيفية التي تكون بها معرفته سبحانه هي كيفية إلهية بينها الله سبحانه، فأولى مراتب معرفته وأعلاها هي معرفته بتنزيهه عن وصفه على الرغم من أنه في البدء عرف ذاته سبحانه بالصفة وذلك لحاجة القابل ولولا أنه سبحانه وصف ذاته لما عرفه خلقه، ولكن بين سبحانه أنّ وصفه ليس هو وإنما هو قبلة دالة إليه وسبيل مؤد إليه، فهو وصف نفسه وبنفس الوقت أمر عباده أن يعرفوه بتنزيهه عن صفته. المرتبة الثانية: هي معرفته بوصفه من خلال اصطباغ العارفين به في المرتبة الأولى الذين عرفوه بتنزيهه عن وصفه فأسبغ الوصف عليه فصاروا المصداق العملي لصفته المعرف بها، وهذه المرتبة كانت أيضاً لحاجة القابل والفاعل غني عنها سبحانه، فكان المعلمون المرسلون الناطقون العاملون بصفته سبحانه يعلمون الناس أن معرفته بالنسبة لهم وإن تكون عن طريق صفته المسبغة على عباده المرسلين إلا أنّ على الناس أن تعرف وتتعلم تنزيهه بالطريقة التي نزهه بها عباده العارفون به المعرفين له، وهذه المرتبة هي التي يستبين عندها الناس بين عارف بالله سبحانه ومستثمراً لرحمته المهداة وآخرين أصروا على الإعراض عن معرفته سبحانه فأضاعوا فرصة الرحمة وقبلها أضاعوا فرصة عدله التي أتاحها لعباده جميعاً في الامتحان الأول فانماز الناس فيها بين معلمين ومتعلمين، وأضاعوا فرصة الرحمة في الامتحان الثاني في أن يعرفوا ربهم سبحانه بالكيفية التي عرفها بها السابقون بالمعرفة. وهذه المرتبة هي التي بينها رسول الله ص في وصيته لأمته وجعلها ضامنة لنجاتهم وخلودهم في رضوان الله سبحانه، وهي قوله ص: (إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)، فالكتاب فيه صفته سبحانه وبيان ما يصلح الناس ويوفقهم لمعرفته بالعمل به، والعترة الطاهرة من أهل البيت ص هم الذين يبينون للناس الكيفية العملية للمعرفة. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾([121])، ولعل مما يفهم من معنى الأسوة أي المنفذ العملي الذي بالتمسك به واقتفاء أثره يمكن للناس أن يعرفوا ربهم سبحانه وينزهوه كما نزهه محمد ص، وبترك التمسك به ص فسيقع الناس في الضلال ويبتعدوا عن سبيل المعرفة الحق. مع الانتباه أنّ مرتبة التعليم العملي للكتاب على أيدي الهداة المهديين من الرسل والأنبياء والأوصياء ص هي كذلك تنقسم إلى مرحلتين؛ الأولى: التعليم بالتنزيل، والثانية: التعليم بالتأويل. فكان الأنبياء والمرسلين ص إلى خاتمهم هم رسل تنزيل وتعريف بالتنزيل، وأكمل معرفة التنزيل رسول الله ص، فكان بذلك خاتم النبيين وختمه للنبوة فيه دلالة على أنّ لا رسالة بعده تنزل من السماء فبه ختم الإرسال من السماء ومن عنده ص فتح الإرسال لأهل الأرض كيف يعرفوا التنزيل وكماله، فجعل لتلك المرحلة التعليمية اثني عشر رسولاً من الأئمة بدءاً من علي ع وختاماً بالإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري ع، فهو خاتم الأئمة المرسلين بتعريف الناس بالتنزيل، ومنه ع فتح باب الإرسال بالتأويل بعد ختم مرحلة التنزيل به ع فبدأ الإرسال منه بالتأويل، والرسول الأول الفاتح لمرحلة التأويل هو المهدي الأول أحمد ع كما ورد في وصية رسول الله ص التي أملاها على علي ع ليلة وفاته فسمى بها خلفاءه من بعده إلى يوم القيامة وهم اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فكان الأئمة ص رسل التنزيل، وكان المهديون ص رسل التأويل. ولعل من النافع الذكر أنّ معنى التنزيل هو بيان معاني الكتاب وتوضيحها للناس كل أهل زمان بزمانهم وما يحتاجون إليه من بيان معاني القرآن، حتى وصل الأمر إلى الإمام محمد بن الحسن المهدي ع تم به بيان معاني القرآن، ومنه ع ابتدأت مرحلة بيان حقائق القرآن أي تأويل القرآن، وأول الرسل المبين لحقائق القرآن هو أحمد ع المهدي الأول، ولذلك ذكرت الروايات عن الطاهرين ص أنّ القائم يبث في الناس الخمسة والعشرين حرفاً ويضمها إلى الحرفين المبثوثة فيتمها سبعة وعشرين حرفاً، والحرفان السابقان اللذان تم بثهما في الناس - لعلهما - حرفا التنزيل ففي كل زمان قبل زمن رسول الله ص وفي زمنه كان مناط المعرفة هو أن يعرف الناس الرسول والرسالة، وبعد رسول اللهص كان تكليف الناس أن تعرف تمام الحرفين أي تمام التنزيل وذلك بمعرفة معاني الكتاب. أما في زمن القائم ع فيكون عمله ختم مرحلة بيان التنزيل ببيان كامل معاني القرآن، والشروع في بيان تأويله وبث الخمسة والعشرين حرفاً من أحرف التأويل من خلال بيان حقائق هذه الخمسة والعشرين حرفاً التي بها يستبين معنى الحرفين السابقين، ولعل هذه الخمسة والعشرون حرفاً هي ما تضمنته وصية رسول الله ص؛ رسول الله ص المستخلف وأربعة وعشرون خليفة من بعده خلفاء له على الناس يبينون لهم حقيقة معرفته سبحانه، وكون المعرفة بالتنزيه لا بالوصف كما بين يماني آل محمد ع في تفسير سورة التوحيد. * * * -من سبب المعرفة ؟؟؟ إنّ إجابة السيد اليماني ع تكشف عن ضرورة يحاول الناس اليوم جاهدين في العمل على طمسها أو في أحسن الأحوال الإعراض عنها وإغفال جانبها، وتلك الضرورة لمن يسلِّم اليوم بأنّ الإمام المهدي ع هو تجلي مدينة الكمالات الإلهية في هذا الزمان، وهو صورة مدينة العلم، فلابد له أن يبحث عن باب تلك المدينة وسبيلها، مثلما آمن وصدق بما ورد عن رسول الله ص عندما قال: (يا علي، أنا مدينة العلم وأنت بابها، وهل تؤتى المدينة إلا من بابها !) ([122])، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([123]). والحال نفسه في هذا الزمان، فمدينة علم هذا الزمان هو الإمام المهدي ع المنقذ العالمي للبشرية من مهاوي الضلال والتيه في صحراء الجهل والمادة المهلكة، والاعتراف بهذا الأمر الإلهي يستوجب الاعتراف بأن لهذه المدينة باباً تؤتى منه، وإلا لا سبيل إلى الوصول إليها ومعرفتها من دون معرفة الباب، والدخول من خلاله كي يتمكن من معرفتها ومن ثم معرفة صانعها وبانيها، وهو الله سبحانه، ولذلك ورد عن الإمام الصادق ع أنه قال: (من أراد الله بدء بكم، بكم يبين الله الكذب، وبكم يباعد الله الزمان الكلب، وبكم فتح الله، وبكم يختم [الله]، وبكم يمحو ما يشاء وبكم يثبت، وبكم يفك الذل من رقابنا، وبكم يدرك الله ترة كل مؤمن يطلب بها) ([124]). إذن، الإجابة عن السؤال الأول في المتشابه هي تعريف ظاهر بيِّن بباب المدينة؛ لأنه لا يعرف المدينة إلا من كان جزءاً منها وفيها، وأهم أجزاء المدينة بل محل دخولها الذي يكون منه الولوج إليها هو الباب الذي يلجه الساعون المهتدون طلباً لمعرفة المدينة، ومعرفة بانيها، وينبغي أن يكون الغاية من بلوغ المدينة عبر بابها هو معرفة صانعها وبانيها وعظمته ومن ثم تنزيهه عما دونه. ومثلما كان للتنزيل مدينة علم وباب حيث المدينة محمد ص والباب علي ع فكذلك للتأويل مدينة علم وباب هي صورة من تلك المدينة، ومدينة علم التأويل هو الإمام المهدي محمد بن الحسن ع وباب تلك المدينة وصيه ورسوله إلى الناس كافة أحمد الحسن ع ومما يثبت أنّ اليماني ع هو باب مدينة العلم (الإمام المهدي ع)، هو أن حديث (اعرفوا الله بالله ...) سكن بطون الكتب منذ مئات السنين ولم يأت أحد من الناس يكشف لنا سر هذه المعرفة كما كشفها اليماني ع في هذا الزمان. وكشفه لها يجعلنا أمام احتمالين لا ثالث لهما، وهما؛ إما أن يكون اليماني ع هو الجزء الأهم من المدينة وهو بابها، أو هو من الداخلين فيها، والاحتمال الأول لا نقاش فيه، فكونه باب المدينة فهذا يستلزم أن يكون هو السبيل الكاشف عن أسرارها، أما الاحتمال الثاني فهو يستلزم أن يكون اليماني أول الداخلين إلى تلك المدينة والعارفين بأسرارها ولو كان غير ذلك لكان من سبقه أحق بالبيان، ولذا كون اليماني ع هو أول الداخلين يدل على أنه لابد أن يكون أول المؤمنين ونستدل على أول المؤمنين بوصية رسول الله ص التي يقول فيها: (فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المهديين له ثلاثة أسامي اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد والاسم الثالث المهدي وهو أول المؤمنين) ([125])، ومن هذا النص يتبين عظم المسؤولية الملقاة على كاهل أول المؤمنين ع بوصفه وجه الإمام المهدي ع المواجه للناس، والمعلم الذي يعد أنصار أبيه. فقد ورد عن رسول الله ص في حديث طويل نقتبس منه موضع الشاهد الذي يكشف عن انفراط الناس عن التمسك بإمامة الإمام المهدي ع وبالمقابل عظيم قدر المؤمنين بإمامته ع، وهذا القدر يكشف عن المسؤولية العظيمة التي يتحملها أول المؤمنين ع، حيث قال ص لجابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) في معرض بيان الحجج بعده: (... ثم سميي وكنيي حجة الله في أرضه، وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت له: يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال ص: أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب. يا جابر، هذا من مكنون سر الله، ومخزون علمه، فاكتمه إلا عن أهله) ([126]) وهذا الخبر يكشف عن عظيم معاناة الثابت على القول بإمامته فهو ممتحن أيما امتحان. وكذلك ورد عن أبي جعفر، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر ع، قال: سمعته يقول: (إنّ حديث آل محمد صعب مستصعب ثقيل مقنع أجرد ذكوان لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان أو مدينة حصينة، فإذا قام قائمنا نطق وصدقه القرآن) ([127])، وهذه الرواية يمكننا أن نفهم منها أنّ القرآن في كل زمان هو حجة الله وعلى هذا الفهم يكون القائم الناطق هو ليس الإمام المهدي ع محمد بن الحسن؛ لأنه في هذا الزمان هو القرآن، ويكون القائم الناطق المصدق من القرآن هو مبعوث الإمام المهدي ع للناس وهو وصيه ورسوله ويمانيه أحمد ع، وقد يفهم من تصديق القرآن للقائم الناطق هو أنّ القائم يطلب شهادة القرآن في القول والعمل ويكون القرآن شاهداً على صدقه فلا يخالف القرآن ولا يختلف معه بل يكون حجته القرآن وهذا ما هو حاصل اليوم مع اليماني ع فهو بقوله للناس: (اسألوا الله عني)، يصدقه القرآن بقول الله سبحانه: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾([128]). وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾([129])، وليس هناك من شك في أن التي هي أقوم هي حاكمية الله فهي الدين القيم، ومن يدعو إلى حاكمية الله فهو يدعو للدين القيم، والقرآن يهدي إليه ويصدقه في منطقه. وليس هناك مؤمنين بالإمام المهدي ع في آخر الزمان غير الثلاثمائة والثلاثة عشر، وعلى ذلك نصت روايات الطاهرين ص، وليس في هذا الأمر جدال، أما أولئك الذين يدّعون الإيمان بالإمام المهدي ع انكشف كذب ادعائهم بما ورد عن الطاهرين ص أنّ ظهور الإمام المهدي ع وانتهاء غيبته مرهون بوجود ثلاثمائة وثلاثة عشر نفر، إضافة إلى الحلقة وهم العشرة آلاف رجل، ولو كان أولئك المدَّعون صادقين بادعائهم وهم اليوم بالملايين لكان الإمام المهدي ع ظاهر الأمر بين الناس، بل كان قد أقام دولة العدل الإلهي التي هي أمنية الأنبياء والمرسلين ص. وقد ورد بهذا السياق بيان أمير المؤمنين ع لصفات الدابة التي تكلم الناس في آخر الزمان فقال: (فقلت - أي أبو الطفيل -: يا أمير المؤمنين، قول الله عز وجل: "إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون"، ما الدابة ؟! قال: يا أبا الطفيل، إلهَ عن هذا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرني به جعلت فداك ؟ قال: هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء. فقلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: هو رب الأرض الذي تسكن الأرض به. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: صدِّيق هذه الأمة وفاروقها وربِّيها وذو قرينها. قلت: يا أمير المؤمنين، من هو ؟ قال: الذي قال الله تعالى: "ويتلوه شاهد منه"، و "الذي عنده علم الكتاب"، و "الذي جاء بالصدق والذي صدق به" أنا، والناس كلهم كافرون غيري وغيره) ([130]). فاليماني ع أول المؤمنين بالإمام المهدي ع في آخر الزمان كما كان علي ع أول المؤمنين بمحمد ص في أول الزمان، ومن يلتفت إلى أنّ مصطلح (الكفر) الذي يصف أمير المؤمنين ع الناس به هو كفر معرفة - بحسب ما فهمت - أي لا أحد من الناس في زمانَيْ علي ع واليماني ع عارف بالله ولا بحجته غيرهما؛ لأنهما الموصوفان بـ (أول المؤمنين) كون كل واحد منهما يعد باب المدينة الإلهية المتجلية بحجة الله سبحانه في زمنيهما، وكذلك هما كل في زمانه يعد أول الداخلين إليها. فقد ورد عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب ص، قال: (لما حضرت رسول الله ص الوفاة دعاني فلما دخلت عليه قال لي: يا علي، أنت وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي، في حياتي وبعد موتي، وليك وليي ووليي ولي الله، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله. يا علي، المنكر لولايتك بعدي كالمنكر لرسالتي في حياتي؛ لأنك مني وأنا منك، ثم أدناني فأسر إليّ ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب) ([131])، وهذا اليوم هو لسان حال اليماني ع وصي ورسول الإمام المهدي ع وأول المؤمنين به. لذا فالسؤال بـ (كيف) يرشد الناس إلى المنهج الذي به يُعرف باب مدينة العلم في هذا الزمان ليبرهنوا عن صدق ولائهم للإمام المهدي ع وثباتهم على بيعتهم له، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾([132])، والفتنة للناس هي في هذه الدعوة اليمانية المباركة التي تعد ميزان الله سبحانه في الأرض في هذا الزمان، ومن خلالها ينكشف للناس مدى معرفتهم بالغيب وإيمانهم به، ولذلك جاءت الإجابة على هذا السؤال المهم بطريقة الإشارة كي يعرفها من طلب الحق من الحق وعرف الله بالله، وفي تلك الإجابة عن السؤال تم بيان الكيفية بصورة واضحة من خلال التعريف أنّ الإمام المهدي ع هو تجلي الله سبحانه في الخلق وهو وجهه الذي واجه به خلقه في هذا الزمان. وتمت الإشارة بلطف حكيم إلى الإجابة عن السبب إلى تلك المعرفة وطريقها والباب المؤدي إلى مدينة علم الله سبحانه في هذا الزمان، وهذه الإشارة قالت: إنّ المتكلم عن بيان تلك المعرفة وقانونها هو لابد أن يكون سببها، وإلا كيف يتسنى لمن هو ليس سبباً لها أن يتحدث عنها ولا يُرى في حديثه اختلاف أو تناقض أو تعارض، قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾([133])، والقرآن إن كان مفهوماً هو النص ولكنه من دون لسان ناطق به مبين له يبقى صامتاً لا سبيل إلى معرفة أسراره، فلابد له من مصداق ناطق مبين لأسرار النص الصامت، والقرآن الناطق في هذا الزمان - بحسب ما فهمت - هو السبب المعلق بين الأرض (الناس)، والسماء (الإمام المهدي ع)، وهو اليماني ع. فالسؤال الأول أجاب عن الكيفية صراحة، وأجاب عن السبب تلميحاً وإشارة، ورد عن الإمام الصادق ع أنه قال: (أبى الله أن يجرى الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح مفتاحاً، وجعل لكل مفتاح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً من عرفه عرف الله ومن أنكره أنكر الله، ذلك رسول الله ونحن) ([134]). ولعل قول الإمام الصادق ع: (رسول الله ونحن) يحتاج إلى إحكام أكبر، فورد عنهم ص في بيان معنى (نحن) ما نصه عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله ع: (الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه) ([135])، ومن ثم فعلى من يتحدث في المتشابه ويدّعي إحكامه أن يثبت أنه من أوصياء رسول الله محمد ص، ولابد أن يكون منصوصاً عليه، وليس هناك نص كامل يبين أوصياء رسول الله ص إلى يوم القيامة غير وصية رسول الله ص التي أملاها ليلة وفاته على علي ع، وشهد عليها ثلاثة نفر من كبار الصحابة، هم سلمان المحمدي وأبو ذر الغفاري والمقداد، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾([136]). إنّ وصية (نص) رسول الله ص هي تثبيت لحاكمية الله سبحانه بوصفها أصل وبيان للكيفية، وكون المتكلم في المتشابه هو وصي مذكور في الوصية لذا فهو بيان لمصداق الحاكمية وكشف عن السبب. حيث جاء في وصية رسول الله ص تسمية أوصيائه لتكون لهم حجة يحتجون بها على الناس، ومنع للمتأولين من دخول ساحة التأويل؛ لأنها ساحة الراسخين في العلم وهم أوصياء محمدص الوارد ذكرهم في وصيته المقدسة. قال الشيخ الطوسي: (أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن علي بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصري، عن عمه الحسن بن علي، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيد العابدين ، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين ع، قال: "قال رسول الله ص - في الليلة التي كانت فيها وفاته - لعلي ع: يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة. فأملا رسول الله ص وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي، إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماماً، سماك الله تعالى في سمائه: علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي، أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي فمن ثبتها لقيتني غداً، ومن طلقتها فأنا برئ منها، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي. فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد ص. فذلك اثنا عشر إماماً، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث المهدي، هو أول المؤمنين")([137]). إنّ وصف الإمام المهدي محمد بن الحسن ع بـ (المستحفظ) له دلالة مهمة تبين وتكشف أهمية كونه مستحفظاً، ووصف (المستحفظ) دال على التشديد والتأكيد في الحفظ وكذلك له دلالة زمنية على المستقبل، وهذا الوصف للإمام محمد بن الحسن ع يكشف عن سر من أسرار الغيبة والانتظار، ويستبين هذا السر بمجيء صاحب الأمر المنتظر الذي بينه النص الوارد عن مالك الجهني، قال: (قلت لأبي جعفر ع: إنا لنصف صاحب هذا الأمر بالصفة التي ليس بها أحد من الناس. فقال ع: لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى يكون هو الذي يحتج عليكم بذلك ويدعوكم إليه) ([138]). فصاحب الأمر هو يدعو الناس إلى الأمر ويحتج بهم عليهم بذلك الأمر، وما هو ذلك الأمر الذي احتج به صاحبه ؟؟ الإجابة اليوم باتت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فهذا الأمر هو أمر رسول الله ص بتنصيب أوصيائه وحجج الله على الخلق من بعده إلى يوم القيامة وكان لإظهار هذا الأمر بيان عجز عنه الناس منذ أن كتب رسول الله ص الكتاب الضامن وإلى زمن ظهور صاحبه وهو اليماني وصي ورسول الإمام المهدي ع. ولعل في الرواية الآتية جواب وبيان عن معنى المستحفظ هذا الوصف الذي ذكره رسول اللهص في وصيته المقدسة: حدثنا محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن عبد الكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبد الله ع، قال: (أوصى موسى إلى يوشع بن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون ولم يوص إلى ولد موسى؛ لأن الله له الخيرة يختار من يشاء ممن يشاء، وبشر موسى يوشع بن نون بالمسيح فلما أن بعث الله المسيح قال لهم إنه سيأتي رسول الله ص من بعدي اسمه أحمد من ولد إسماعيل يصدقني ويصدقكم، وجرت بين الحواريين في المستحفظين، وإنما سماهم الله المستحفظين لأنهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الذي يعلم به كل شيء الذي كان مع الأنبياء، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ﴾ الكتاب الاسم الأكبر وإنما عرف مما يدعى العلم التوراة والإنجيل والفرقان فما كان كتب نوح وما كتاب صالح وشعيب وإبراهيم وقد أخبر الله إِنَّ هذا: ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى﴾ فأين صحف إبراهيم ؟ أما صحف إبراهيم فالاسم الأكبر، وصحف موسى الاسم الأكبر، فلم تزل الوصية يوصيها عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد ص ثم أتاه جبرئيل، فقال له: إنك قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة عند علي ع فإني لا أترك الأرض إلا ولي فيها عالم يعرف به طاعتي ويعرف به ولايتي) ([139]). فالفهم يقودنا إلى القول بحسب ما بينته الرواية السالفة، إنّ المستحفظ للاسم الأكبر هو الإمام المهدي ع محمد بن الحسن، والكتاب هو أحمد ع والمهديين ص وهو عهد الخلافة، والميزان هو علي ع والأئمة ص وهو عهد الولاية، فيكون أحمد ع هو الكتاب وهو الكاف وهو الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة، قال تعالى: ﴿الم ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾([140]). ورد عن أبي حمزة، عن أبي جعفر ع، قال: (قال رسول الله ص: طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتم به في غيبته قبل قيامه ويتولى أولياءه، يعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودتي وأكرم أمتي علي يوم القيامة) ([141])، ومن ينتبه فهذه الرواية الشريفة ليست في الإمام محمد بن الحسن المهدي ع، بل هي في المهدي الأول ع، لماذا ؟؟!! للنقاط الآتية: 1- الإمام المهدي ع ليس هو امتحان الأمة بل هو المُمْتَحِن، بل الامتحان يكون منه ع، وهو امتحن الأمة بأول المؤمنين به، مثلما لم يكن امتحان الناس في دعوة رسول الله ص في محمدص لأنه هو الممتحن، بل كان الامتحان في أول المؤمنين به ووصيه علي ع. 2- الرواية تقول: (طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي)، ومن المعلوم أنّ (أدرك) تعني أنّ القائم يظهر ويدعو الناس إليه ليتيح للناس فرصة إدراكه، ولولا ذلك لا يمكن إدراكه، فكيف يدرك من كان غيباً ؟؟ والله سبحانه وهو الغيب الحق يقول: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾([142]) والكل يعلم وخاصة الشيعة اليوم أنّ الإمام المهدي محمد بن الحسن ع هو مصداق من مصاديق الغيب، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، فقد ورد عن الطاهرين ص أنّ الغيب في الآية هو الإمام المهدي ع، إذن هذا المدرَك هو غير الإمام المهدي محمد بن الحسن ع، ومن يكون غير الإمام ع قائماً غير وصيه وأول المؤمنين بإمامته ؟؟؟ 3- الرواية تقول: (وهو يأتم به في غيبته قبل قيامه) ومن المعلوم أنّ الإمام لابد أن يكون مدركاً كي يتمكن المأموم من الائتمام به، وكذلك الرواية تقول: (في غيبته قبل قيامه) ومن المعلوم أنّ غيبة الإمام المهدي ع غيبتان وليست غيبة واحدة، فضلاً على أنّ دلالة الغيبة تعد من المتشابهات؛ لأن لها معان كثيرة، ولذلك فرسول الله ص وضع لدلالة تلك الغيبة ضابطة، وتلك الضابطة هي (قبل قيامه)، فالغيبة هنا هي الاختفاء وتلك هي سنة موسى ع (خائف يترقب)، فالقائم فيه سنة من موسى ع، والإمام المهدي ع ممَ خائف؟؟؟ وما الذي يترقبه، وهو ع يوصل صلاته بقنوته وقنوته بصلاته حتى صار مصداقاً للغيب وتجل من تجلياته لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. 4- الرواية تقول: (ويتولى أولياءه، يعادي أعداءه) فمن هم أولياؤه اليوم، الذين يصدقون روايات آل محمد ص أو أولئك الذين عملوا على قتل روايات أهل البيت ص ؟؟؟ وهذا السؤال يجيب عنه رسول الله ص حيث ورد عنه ص: عن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي (سلام الله عليهم) في حديث طويل في وصيته يذكر فيها: (إنّ رسول الله ص قال: يا علي، أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قوم يكونون في آخر الزمان، لم يلحقوا النبي وحجبت عنهم الحجة، فآمنوا بسواد على بياض، أي بالأحاديث التي كتبت على القرطاس)([143]). من الحجة المحجوبة عن الناس غير الإمام المهدي ع، وما السواد على البياض غير أحاديثهم الشريفة (صلوات الله وسلامه عليهم)، ومن المعلوم أنّ الامتحان دائماً يكون بالنص بعد حجب الحجة، تلك سنة الله سبحانه في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وهل اليوم هناك دعاة وأولياء يمتلكون الحجة ويدعون الناس إلى الثقلين غير أنصار الإمام المهدي ع، وهؤلاء الأنصار من سيدهم وقائدهم ؟؟ سيدهم وقائدهم ومربيهم هو السيد أحمد الحسن يماني آل محمد ع وصي ورسول الإمام المهدي ع، وهم الذين يدعون اليوم إلى حاكمية الله وعمدوا طريقها بالدماء الطاهرة، وأعداؤه هم كل الذين لا يؤمنون بحاكمية الله سبحانه وتنصيبه، وكل الذين يحاولون جاهدين وأد روايات أهل البيت ص وقتلها، ويدعون إلى حاكمية الناس وديمقراطية أمريكا راية الشيطان التي لا تحتاج معرفتها إلى دليل فأمريكا اليوم سيدة الظلم والجور، ومن يدعو إلى مشروعها في الحاكمية هو منضوٍ تحت لوائها، وهو ممن يعادي أولياء القائم. وأولياء القائم ع هم أولئك الذين وصفهم سيد المرسلين ص بأنهم لم يلحقوا بنبي، وحجبت عنهم الحجة وهو الإمام المهدي ع، فآمنوا بسواد على بياض ووصية رسول الله ص التي أملاها ليلة وفاته على علي ع هي مصداق أكبر وأعظم من مصاديق الإيمان بالسواد على البياض التي يذكر فيها آخر المستحفظين وهو الإمام المهدي محمد بن الحسن ع، حيث يسلمها إلى ابنه صاحب ذخيرة الأنبياء ص وذخيرة الأنبياء هي الوصية المقدسة، وهي المذخورة له (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه)، حيث ورد فيها ما نصه (فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد ص. فذلك اثنا عشر إماماً، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين) ([144])، (المستحفظ هو الإمام المهدي ع محمد بن الحسن، والكتاب هو أحمد ع والمهديين ص وهو عهد الخلافة، والميزان هو علي ع والأئمة ص وهو عهد الولاية، فيكون أحمد ع هو الكتاب وهو الكاف وهو الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة). بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديّان الدين، رب العالمين. الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمّارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق. (أسرار الإمام المهدي ع رقم 1) ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ صدق الله العلي العظيم ([145]). إلى الذين يعرفون الله بالآيات والبينات، وإلى الذين يذكرون الله وقلوبهم وجلة، وإلى عباد الله المتقين. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿الم ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾([146]). الغيب هو الإمام المهدي محمد بن الحسن ع كما فسره آل محمد ص للناس وأذاعوه على رؤوس الأشهاد وهو هاء الله ونون القلم. والكتاب الدال عليه لا ريب فيه عند المتقين ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾([147]). والكتاب هو كاف كن فبه ترزقون وبه تمطرون وبه يغاث الناس وبه يعصرون، وفي الصعود تندرس الكاف في النون، وفي النزول تندرس النون في الكاف، فمن أراد أن يرى النون فلينظر إلى الكاف، ومن أراد معرفة الغيب لا مناص له من البحث عن الكتاب أولاً ومعرفته. هيهات علم مكنون لا يمسه إلا المطهرون، فتطهروا لتتزودوا إنّ خير الزاد التقوى، فالقدوس لا يقرب إلا القدوس والقدوس لا يحب إلا القدوس. ثم إنّ الكتاب واحد لا يتجزأ ليدل ويهدي إلى واحد، يهدي إلى الله الواحد القهار، فمهما تعددت سبل السلام فهي تجتمع في الصراط المستقيم، ومهما تعددت الخيوط فكلها مرتبطة بحبل الله المتين المرتبط بالغيب وما لم يستغلها الإنسان للوصول إلى حبل الله المتين تنقطع به وتهوى به إلى الجحيم ويسمى كالسامري وبلعم بن باعوره يتقلب في الظلمات وهو يظن أنه النور المبين، ومثله كمثل الكلب ويعتقد أنه مع الملائكة المقربين ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِين فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين ( عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾([148])، ([149]). 4/ شوال/ 1424هـ . ق * * * -لماذا هذه المعرفة ؟؟؟ إنّ السؤال بـ (لماذا) هو سؤال عن الحكمة من وراء تلك المعرفة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾([150])، فالمنهج الإلهي في المعرفة هو منهج ارتقائي - لو جاز الوصف - بمعنى أنّ السائر في سبيل المعرفة الإلهية هو يترقى من عالم الشهود إلى عالم الغيب، ومن عالم الملك إلى عالم الملكوت. وهذا الترقي مع كل درجة يرتقيها العارف فهو يبتعد عن عالم العصيان والتمرد ويقترب من عالم الإسلام والطاعة، حيث ورد عن أمير المؤمنين ع أنه قال: (من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها) ([151]). وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾([152])، وهذا يعني أن لا عصيان إلا في عالم الملك (العالم الجسماني). أما في عالم الغيب عالم الملكوت فلا عصيان مطلقاً، بل كل من في ذلك العالم فهو طائع لربه سبحانه، وطاعته بحسب معرفته، وكلما ازداد معرفة ازداد رقياً، ولذلك كان أرقى مخلوق في عوالم النور هو إنسان وهو محمد ص الموحد بلا واسطة، وكل الذين يأتون من بعده من المؤمنين هم من الموحدين بواسطته ص، وكان الفائز الأول من الممتحنين بمحمد ص هو علي ع، ولذلك استحق أن يكون أول المؤمنين وأميرهم وسيدهم وقائدهم، ولذلك ورد عن الصادقين ما نصه: عن أبي زكريا الموصلي، عن جابر، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جده ص، أنّ رسول الله ص قال لعلي: (أنت الذي احتج الله بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى. قال: ومحمد رسولي ؟ قالوا: بلى. قال: وعلي بن أبي طالب وصيي ؟ فأبى الخلق جميعاً إلا استكباراً وعتواً من ولايتك إلا نفر قليل، وهم أقل القليل، وهم أصحاب اليمين) ([153]). وكما كان محمد ص وعلي ع في أول الزمان قضى الله سبحانه أن يكون لهما نظيران في خلق آخر الزمان. فكان محمد بن الحسن العسكري ع نظير جده رسول الله ص، وكان أحمد الحسن ع نظير جده أمير المؤمنين ع، وهو المعرف بآيات الله سبحانه، وهو الرسول الذي يعلم الناس التلاوة، وليس المقصود بـ (التلاوة) هذا الذي يعمله اليوم الناس مع القرآن من الترجيع الصوتي ويسمونه تلاوة، إنما التلاوة هي الاتباع ([154])، والاتباع يقتضي متبوعاً، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾([155])، والمتبوع في الآية هو حجة الله على الخلق المأمور الخلق بطاعته المناط به بيان آيات الله سبحانه المتتابعة والكشف عن أسرارها والحكمة من وراء تلك الأسرار، ولذلك قال بعد أن يتلو عليهم آياته ويزكيهم - أي يطهرهم من رجس الآراء ويجعل من أفئدتهم أوعية لقول الحق - يقوم بتعليمهم الكتاب (السبب الممدود بين الله سبحانه والخلق)، ويعلمهم الحكمة (وهي وعاء النور الإلهي الذي لا يخرج منه شيء إلا بأمر ربه سبحانه). لذا كان السؤال الثاني عن (لماذا) تحديداً، أي ما الحكمة في أن يرى إبراهيم ع كوكباً، وقمراً، وشمساً فقط ؟؟؟!!! فجاء جواب اليماني ع ما نصه: [الشمس رسول الله ص، والقمر الإمام علي ع، والكوكب الإمام المهدي ع. والشمس والقمر والكوكب في الملكوت كانت: تجلي الله في الخلق، ولهذا اشتبه بها إبراهيم ع، ولكن كل بحسبه. واختص محمد وعلي والقائم ص بأنهم تمام تجلي الله في الخلق في هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم مُرسِلين وليس فقط مُرسَلين، ولأن محمداً ص هو صاحب الفتح المبين. وهو الذي فتح له مثل سم الإبرة، وكشف له شيء من حجاب اللاهوت، فرأى من آيات ربه الكبرى. وهو مدينة العلم، وهي صورة لمدينة الكمالات الإلهية أو الذات الإلهية. أما علي فلأنه باب مدينة العلم، وهو جزء منها، وكل ما يفاض منها يفاض من خلاله. فمحمد ص تجلي الله سبحانه وتعالى، واسم الله سبحانه في الخلق. وعلي ممسوس بذات الله. فعندما لا يبقى محمد، ولا يبقى إلا الله الواحد القهار في آنات، يكون علي عليه صلوات ربي هو تجلي الله سبحانه في الخلق، وفاطمة عليها صلوات ربي معه. وهي مخصوصة بأنها باطن القمر وظاهر الشمس. ولهذا قال علي ع: (لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقيناً)؛ لأنه وإن لم يكشف له الغطاء ولكنه بمقام من كشف له الغطاء. أما القائم ع فهو تجلي اسم الله سبحانه وهو حي، وقبل شهادته، لطول حياته، وطول عبادته، مع كمال صفاته وإخلاصه، فهو يصل صلاته بقنوته وقنوته بصلاته، وكأنه لا يفتر عن عبادة الله سبحانه، ولأنه الجالس على العرش يوم الدين أي يوم القيامة الصغرى، وفي القرآن اليوم المعلوم، ولأنه الحاكم باسم الله بين الأمم في ذلك اليوم، فلابد أن يكون مرآة تعكس الذات الإلهية في الخلق، ليكون الحاكم هو الله في الخلق، فيكون كلام الإمام ع هو كلام الله، وحكمه هو حكم الله، وملك الإمام ع هو ملك الله سبحانه وتعالى. فيصدق في ذلك اليـوم قوله تعالى في سورة الفاتحة: (ملك يوم الدين)، ويكون الإمام ع في ذلك اليوم عين الله ولسان الله الناطق ويد الله] ([156]). وإجابة السيد اليماني ع توضح جملة من الأمور المهمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- إحكام صفة الشمس بمحمد ص، والقمر بعلي ع، والكوكب بالمهدي ع، يكشف عن دلائل السبيل إلى الله سبحانه، وهذه الدلائل هي من تعيين الله سبحانه، فكان محمد ص هو الشمس، ومن المعلوم أنّ الشمس هي مصدر النور والطاقة وصورتها، وكذلك محمد ص هو مدينة العلم ومصدر المعرفة وصورة كلمة الله التي باطنها الذات، فمحمد ص هو ظاهر الكلمة التامة وحجابها، أما القمر فهو نور في الظلمة دال على وجود الشمس وهو بابها وحجابها، بل إنّ القمر يستمد نوره من الشمس، أما الكوكب فهو ممثل الشمس والقمر المبين لنورهم والكاشف عن حقيقتهم، وهو اللسان الناطق بالكلمة التامة المبين لها، واشتباه إبراهيم بنوره لأن حقيقة النور فيه هي دالة على غاية المعرفة، أما هو - أي الكوكب - فهو القائم بنور الله الحامل له والمبلغ به. 2- تبين للمتدبر أنّ معرفة إبراهيم ع عندما نظر في ملكوت السماوات هي المنهج المعرفي الحق لبلوغ مرتبة اليقين، فإبراهيم ع كان يطلب معرفة الحقيقة ولم يطلب معرفة المعاني، ولو كان يطلب معرفة المعاني حسب لاكتفى برؤية الكوكب والشمس والقمر، ولعرف معانيها ولم تتبين له حقيقتها من أنها ذوات آفلة أشرقت بنور الحقيقة، فبحثه عن الحقيقة هو ما جعله يستبين حقائق الذوات النورانية من أنها ذوات آفلة بنفسها، وإنما أشرقت بنور ربها سبحانه فهي سبيل لمعرفته وليست هي معرفته، إنما معرفته تكون بتنزيهه سبحانه، وقد أدرك هذه الحقيقة سيدنا إبراهيم ع، ولذلك فالله سبحانه يقول: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾([157]). وعن قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾([158]). يقول السيد أحمد الحسن ع: [ولما جاءهم رسول من عند الله: أي رسول من الإمام المهدي ع؛ لأنه بعد بعث الإنسان الكامل (كلمتك التامة وكلماتك التي تفضلت بها على العالمين) وهم محمد وآل محمد ختمت الرسالة من الله سبحانه وتعالى وبدأ عهد جديد وهو الرسالة من الرسول محمد وآل محمد ص، فـ آل محمد رسل من محمد ص يأخذون علمهم منه ص بالوحي أو بواسطة ملائكة أو مباشرة منه ص، فالرسول محمد ص (الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل) أي الخاتم للرسالة من الله وفاتح الإرسال منه ص ومن آل بيته ص، وقد ثبت عند الشيعة أنّ الإمام المهدي ع يرسل محمد بن الحسن ذو النفس الزكية قبل خمسة عشر يوماً من قيامه لأهل مكة فيقتلونه، فإذا صح هذا الإرسال صح غيره. مصدق لما معهم: من العلم الذي ورثه الشيعة عن أهل البيت ص بأنّ المهدي ع حق، وإنه يقوم بالسيف، وإنه قبل قيامه يوجد ممهدون يوطئون له سلطانه، وإنّ له ذرية، وإنّ بعده اثنا عشر من ولده مهديين، وإنهم - أي الشيعة - قاطعين بناء على الروايات التي وردت عنهم ص بأنّ الأرض لو خليت من الإمام لساخت بأهلها. فبعد قتل أو بحسب اعتقاد بعضهم موت الإمام المهدي ع بمن تستقر الأرض إن لم يكن بأحد ولده الأوصياء من بعده والأئمة المهديين كما في الروايات عنهم ص؟!! وفي صلاة يوم الجمعة التي قال فيها ابن طاووس (رحمه الله) - وهو ممن التقى بالإمام المهدي ع، بل ونقل عنه ع في زمن الغيبة الكبرى -: (إن تركت تعقيب العصر يوم الجمعة لعذر من الأعذار فلا تترك هذه الصلاة أبداً؛ لأمر أطلعنا الله عليه)، ثم ذكر الصلاة التي في نهايتها يقول الإمام ع: (وصل على وليك - أي الإمام المهدي ع - وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم دينا ودنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير). ورد في الرواية أنه ينزل في مسجد السهلة بعياله. وورد أن بعده أحد عشر مهدياً من ولده ع. والروايات كثيرة لست بصدد استقصائها، وإنما ذكرت بعضها للحجة على المعاند المتكبر على الله وأولياء الله، ومن أراد العلم طلباً للحق، فليراجع كتب الحديث ويطلع بنفسه. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 101]، وهؤلاء هم بعض علماء الشيعة وأتباعهم خاصة والكتاب الذي نبذوه وراء ظهورهم هو القرآن والإمام المهدي ع والروايات عن أهل بيت العصمة والممهدون للإمام المهدي ع وإرساله لهم، وكذبوا بالحق لما جاءهم وقالوا ساحر أو مجنون أو به جنة كأنهم لا يعلمون. إن هذا هو الحق من الإمام المهدي ع] ([159]). -لسان أهل هذا الزمان: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([160]). ورد عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إسحاق الماذراني بالبصرة، قال: حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد، قال: حدثنا غانم بن الحسن السعدي، قال: حدثنا مسلم بن خالد المكي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام، قال: (ما أنزل الله تعالى كتاباً ولا وحياً إلا بالعربية فكان يقع في مسامع الأنبياء ص بألسنة قومهم، وكان يقع في مسامع نبينا بالعربية فإذا كلم به قومه كلمهم بالعربية فيقع في مسامعهم بلسانهم، وكان أحدنا لا يخاطب رسول الله بأي لسان خاطبه إلا وقع في مسامعه بالعربية، كل ذلك يترجم جبرئيل ع عنه تشريفاً من الله عز وجل له) ([161]). فالعربية هنا عربية المعاني لا عربية الألفاظ، بدليل قول الرواية الشريفة: (وكان يقع في مسامع نبينا بالعربية فإذا كلم به قومه كلمهم بالعربية فيقع في مسامعهم بلسانهم)، فالعربية التي يتحدث بها رسول الله ص تقع في مسامع قومه بلسانهم، ولعل معنى هذا الكلام أنهم إذا عبروا عما وقع في مسامعهم عبروا عنه بلسانهم أي بألفاظهم كونها وسيلتهم في التعبير، ولو كان المقصود في الرواية عربية الألفاظ لما صح القول (فيقع في مسامعهم بلسانهم)؛ لأنه ص تكلم معهم بالعربية. لقد توهم بعضهم وفسر (بلسان قومه) بـ (لغة قومه)، وتوهموا أنّ (قومه) في الآية دالة على العرق الذي ينتسب إليهم، ولو كان توهمهم هذا صحيحاً فسيأتيهم السؤال الآتي: لو كان ما تقولون صحيحاً فبأي دليل يخاطب رسول الله محمد ص برسالته ودعوته هرقل الروم وكسرى الفرس ومقوقس القبط ونجاشي الحبشة بالوقت نفسه الذي خاطب به قومه أي أهل الجزيرة العربية؟؟!! وكيف يتسق فهمهم هذا وقول الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾([162])، فهو ص لم يبعث لأعراب الجزيرة وحدهم، وليسوا هم قومه حسب، بل لا يستقيم معنى قومه إلا إذا قلنا: (إنّ قومه هم كل أهل زمانه في مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك كل الرسل)، ولسان الرسول ص في ذاك الزمان كان لسان التنزيل وهذا اللسان جاء لينقض لسان أهل زمانه وهو لسان البدع وإنشاء النصوص كالشعر والكهانة. حيث يروى: (أنّ النبي ص لما أنزل عليه: ﴿حم ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ﴾([163])، قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي ص لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنه له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمعذق، وإنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله ليصبأن قريش كلهم، وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه. فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له: مالي أراك حزيناً يا ابن أخي ؟ قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال: تزعمون أنّ محمداً مجنون ؟ فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن ؟ فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر ؟ فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب ؟ فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه. قالت قريش للوليد: فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر) ([164]). ومن ينتبه إلى قول الوليد بن المغيرة عندما سمع قول الله سبحانه سيتبين له من هذه الشهادة أنّ الوليد بن المغيرة قد اسقط في يديه وهو العالم - بحسب حاله بقول أهل زمانه - ويعرف كيف يميز بين الكهانة والشعر، فكانت شهادته بيان إلى أنّ هذا التنزيل لا يقدر على قوله البشر (والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن)، فها هم قسم من قومه (أهل زمانه) يعرفون هوية التنزيل ويفرقون بينه وبين قول البشر، وكذلك سماع هرقل بدعوة النبي ص جعلته يعرف أنه مبعوث السماء، وكذلك النجاشي ومقوقس القبط عرفوا من لسانه أنه رسول رب العالمين لزمانهم الذي هم فيه، وهذا الحال حتى مع أئمة أهل البيت ص حيث آمن على أيديهم اليهود والنصارى والمجوس وقوم من ملل أخرى، فكيف آمن أولئك بال محمد ص لولا أنّ كل واحد منهم كان مرسلاً بلسان أهل زمانه ومصداق من مصاديق قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾. ومن يصر على تعريف اللسان على أنه هذه الألفاظ، والقوم بأعراب الجزيرة حسب فهو سيعطي المبرر الكافي للمتصيدين بالماء العكر كي يتهم الناس رب العالمين ص في عدالته عندما أغرق الأرض كلها وأهلك أهلها لعصيانهم نبيه نوح ع ولم يكن الغرق خاص بقومه الذين يجاورونه حسب. اللسان هو أداة التعبير عن ضمير الإنسان وفكره، ولسان قومه أي لسان أهل زمانه الذين يسكنون هذا العالم في مشارق الأرض ومغاربها وليس قومه هم عشيرته أو قبيلته أو شعبه أو ... أو ... إلى غير ذلك من المسميات التحزبية والتكتلية، فالرسل هم مبعوثون إلهيون لكل الناس في زمانهم، ولو نظرنا إلى معاجز بعض المرسلين ص إلى أقوامهم فهمنا معنى بلسان قومهم، فمعجزة موسى ع عصا تفعل الأعاجيب في زمن افتتنت الناس فيه بالسحر، وعيسى ع معجزته الشفاء والخلق في زمن افتتن أناس ذاك العالم بالحكمة البشرية والطب، ومعجزة محمد ص هو القرآن كلام الله المنزل في زمن افتتن فيه الناس بالكلام وبلاغته. والقائم ع مبعوث إلى أهل زمن مفتونين بالتأويل، فمعجزته ورسالته هي التأويل، وهو بهذا اللسان (التأويل) سيفضح ما افتتن الناس به، ويبين لهم أنهم - أي من يرد عليه ويواجهه - من أهل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾([165])، وهذا ما بينه الإمام الصادق ع بعبارة واضحة جلية، حيث ورد عن محمد بن مروان، عن الفضيل بن يسار، قال: (سمعت أبا عبد الله ع يقول: إنّ قائمنا إذا قام استقبل من جهل الناس أشد مما استقبله رسول الله ص من جهال الجاهلية. قلت: وكيف ذاك ؟ قال: إنّ رسول الله ص أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وإنّ قائمنا إذا قام أتى الناس وكلهم يتأول عليه كتاب الله يحتج عليه به. ثم قال: أما والله ليدخلن عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحر والقر) ([166])، فهذه الرواية المباركة كاشفة عن لسان قوم محمد ص، وعن لسان قوم القائم ع وما سيلاقيه القائم ع من لسانهم هذا. فالإمام الصادق ع يقول: (وكلهم يتأول عليه كتاب الله يحتج عليه به) وكتاب الله ليس القرآن حسب، بل التوراة كتاب الله، والإنجيل كتاب الله، والزبور كتاب الله، وصحف إبراهيم ع كتاب الله، ولذا فالرواية - بحسب مبانيهم المنطقية - مسورة بسور الكلية، وبما أنّ القائم ع مبعوث لكل أهل الأرض فليس من المعقول التصور بأن من يتأول عليه هم المسلمون حسب، بل المتأولون هم كل من له كتاب منزل من الله سبحانه. ومن يتدبر معنى العربية يجد أنّ معناها هو النقاء ﴿قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾([167])، عربت البذور أي نقيتها، وكذلك اللسان في الرؤيا هو لسان أهل الجنة وهو لسان الملكوت (لسان المعاني لا الألفاظ) وهو لسان عربي مبين أي لسان نقي صادق بين، لذا كان التواصل بين أهل الملكوت لا يحتاج إلى ترجمة لبيانه ووضوحه، ولكن يحتاج الترجمة عندما يعبر عنه بلغة هذا العالم وذلك من خلال استخدام الألفاظ التي ترمز إلى تلك المعاني الملكوتية، ولذا علينا أن نفهم أنّ (بلسان عربي مبين) أي بلسان نقي من الشبهات والعيب وعدم الوضوح لأنه كلام علم وحجة وبرهان. ينبغي أن ننتبه إلى أنّ اللسان هو ما تؤدى به المعاني وليس ما تؤدى به الألفاظ حسب، وإن كان ظاهراً عمل اللسان أداء الألفاظ، ولكن أداء الألفاظ لا اعتبار له ما لم تكن هذه الألفاظ من رشحات المعاني، ولذا فربط العربية باللسان لبيان أنّ اللسان ينقل من مصدر نقي صادق أي ينقل من النور وينقل معرفة، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾([168])، فلو كان التعويل على أداء الألفاظ وصورتها وما تؤديه من معاني عرفية بحسب الناس الذين نزل فيهم القرآن، يكون الاختلاف واقع وليس كما أخبر القرآن أن لا اختلاف، وهنا الآية الكريمة نقضت فهم الناس العرفي للعربية كونها عربية ألفاظ، وثبتت حقيقة غائبة عن أذهان الناس وأشار لها آل محمد ص إشارات - أيضاً لم ينتبه لها الناس - من أنّ عربية القرآن هي عربية معان لا عربية ألفاظ، وهنا يكون القرآن حجة على كل الناس على اختلاف صور لغاتهم اللفظية. وهذا القول يبدو جديداً في واقع البحث المعاصر من أنّ اللغات افترقت في الألفاظ ولكنها لغة واحدة في المعاني الناقلة للمعرفة، ولذا فاللغة الموحدة للناس هي لغة المعاني لا لغة الألفاظ، وكتاب الله الذي لا اختلاف فيه هو كتاب المعاني لا كتاب الألفاظ بدليل قول الله جلت قدرته ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ والتدبر ساحته المعاني لا الألفاظ، وهذا الفهم الذي قد يبدو جديداً على القارئ بينه آل محمد ص في مواقف كثيرة أذكر منها مثالاً واحداً كان فيه آل محمد ص ركن الإنقاذ للناس من جهالاتهم وسفينة نجاتهم بحق من الغرق في لجج الجهالات. فقد ذكر الحميري في كتاب سماه مكاتبات الرجال عن العسكريين من قطعه ومن أحكام الدين أبو القاسم الكوفي في كتاب التبديل: (إنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري فقال له أبو محمد ع: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله القرآن. فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أوفى غيره. فقال له أبو محمد: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك ؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها ؟ فإنه سيقول لك إنه من الجائز؛ لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه. فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك ؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة فعرفني من أين لك هذا ؟ فقال: أمرني به أبو محمد. فقال: الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه) ([169]). فهذا الخبر يكشف عن هذا الاختلاف في النظر، فمن نظر للقرآن من خلال ألفاظه توهم الاختلاف والتناقض فيه، أما من نظر للقرآن من خلال معانيه فسيجده كتاب يكلم كل الخلق، ومن هنا يمكننا أن نفهم قول الجن الذي حكاه الله سبحانه بقوله: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾([170])، فالأكيد أنّ الجن لم يسمعوا لفظاً بل سمعوا معنى، وحتى لفظة (أوحي) فهي توضح بأنّ الإيحاء هو نقل للمعاني لا نقل للألفاظ، ولو تدبرنا وتأملنا الفرق بين الاستماع والسماع يتبين لنا أنّ الاستماع معناه سماع المعاني، أما السماع فهو سماع للألفاظ حسب، ولذلك فالشريعة تحاسب على الاستماع لا على السماع، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾([171]). ورد عن أمير المؤمنين ع أنه قال: (يظهر صاحب الراية المحمدية، والدولة الأحمدية، القائم بالسيف، والحال الصادق في المقال، يمهد الأرض، ويحيى السنة والفرض. ثم قال: أيها المحجوب عن شأني، الغافل عن حالي، إنّ العجائب آثار خواطري، والغرائب أسرار ضمائري، لأني قد خرقت الحجاب، وأظهرت العجاب، وأتيت بالباب، ونطقت بالصواب، وفتحت خزائن الغيوب، وفتقت دقائق القلوب، وكنزت لطائف المعارف، ورمزت عوارف اللطائف، فطوبى لمن استمسك بعروة هذا الكلام، وصلى خلف هذا الإمام، فإنه يقف على معاني الكتاب المسطور، والرق المنشور، ثم يدخل إلى البيت المعمور، والبحر المسجور. ثم أنشد يقول: لقد حزت علم الأوليـن وإننيوكاشفت أسرار الغيوب بأسرهاوإني لقيـوم على كل قيم ضنيـن بعلم الآخريـن كتوموعندي حديـث حادث وقديممحيـط بكل العالمـين عليم ثم قال: لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيراً. ثم قال: "ق والقرآن المجيد" كلمات خفيات الأسرار، وعبارات جليات الآثار، ينابيع عوارف القلوب، من مشكاة لطائف الغيوب، لمحات العواقب كالنجوم الثواقب، نهاية الفهوم بداية العلوم، الحكمة ضالة كل حكيم، سبحان القديم يفتح الكتاب، ويقرأ الجواب، يا أبا العباس أنت إمام الناس، سبحان من يحيي الأرض بعد موتها، ويرد الولايات إلى بيوتها، يا منصور تقدم إلى بناء السور، ذلك تقدير العزيز العليم) ([172]). إنّ من يقرأ كلمات أمير المؤمنين ع وهو ناظر إلى الألفاظ وما تعارف عليه الناس من معانيها فقد ضيع النص وأضاع نفسه في تيه لا مخرج له منه، أما من يقرأ كلماته ع وهو متمسك بالعروة الوثقى ناظر في معاني كلامه ع يلحظ بوضوح أنّ الإمام ع ناظر في قابل الأيام واصف لما سيقع فيها وهو يراه، ولذلك نراه ع ينادي قائم آل محمد ع (يا أبا العباس أنت إمام الناس)، فمن هذا الذي يناديه أمير المؤمنين ع بظهر الغيب ؟! لم نجد أحد قبل الإمام أحمد الحسن ع بين للناس وكشف عن هوية (أبي العباس)، ألا يكفي لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد هذا البيان الواضح الجلي في أنّ أبا العباس هو المهدي الأول يماني آل محمد ع، وأمير المؤمنين ع يقول له (أنت إمام الناس)، فهل في عرف المتأولين أنّ إمام الناس الذي نصبه علي ع يمكن أن يأتي غيره ويدعي النص ؟؟!! إنّ ما يفعله المتأولون اليوم من الفقهاء والسائرين بركبهم هو كما وصف الله سبحانه حالهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([173]) وأداتهم في هذا التحريف وسائل اصطلحوا عليها علوماً كالنحو واللغة المأخوذة من المعاجم والمنطق، ووسائل أخرى جعلوا من خلالها ارتباط الناس بالألفاظ ارتباطا هجروا به المعاني وتركوا النظر لها وفيها فضاعوا وأضاعوا. * * * -الخلاصة: خلاصة ما يريد البحث قوله إنّ في زمن التنزيل كان للحكمة والعلم مدينة وباب للمدينة، فكان المدينة محمداً ص وبابها علي ع، والناس عليهم الدخول إلى مدينة علم التنزيل من بابها، وبابها علي ع والأئمة من ولده هم أبواب للباب علي ع، ولعل في الشهادة الثالثة بيان واضح لهذا الأمر (أشهد أنّ علياً والأئمة من ولده حجج الله)، فكان علي ع والأئمة من ولده ص هم الرسل العلماء وأبواب مدينة العلم. أما في آخر الزمان بعد هذه الفترة التي مرت بها الأمة بعد الغيبة الكبرى للإمام المهدي ع جاء زمن التأويل، ولزمن التأويل مدينة وباب وأبواب للباب كما كان الحال وكان محمد ص مدينة العلم وبابها علي والأئمة من ولده، يكون محمد المهدي ع في آخر الزمان مدينة علم الله في مرحلة التأويل وبابها المهدي الأول أحمد ع وأبوابه المهديون ص من ولده، وهم الرسل الأمراء والمطبقون لتعاليم السماء على الأرض، وبهم ص ستمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً ويكون دين الله سبحانه ظاهراً على الدين كله، وهو الحاكم لهذا العالم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾([174]). قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾([175]). فقد ورد في تفسير القمي أنّ: (ذلك في القائم ع ويوم القيامة) ([176]). ومما تقدم يتبين للقارئ أنّ علياً ع كان باب التنزيل، والقائم ع أو المهدي الأول وصي ورسول الإمام المهدي محمد بن الحسن ع هو باب التأويل وهو المناط به بيان أحرف العلم الخمس والعشرين وضم الحرفين إليهم ليتم العدد سبعة وعشرون حرفاً، وهذا الأمر بينه بجلاء ووضح الإمام أحمد الحسن ع في مواضع كثيرة من المتشابهات والجواب المنير، ولعل بيانه لهذه الأحرف في تفسير سورة التوحيد وأنها أبواب التوحيد ومنهج المعرفة الحق ما يغني عن إعادتها في خلاصة البحث، ولمن شاء التوسع فيمكنه العودة إليها في الكتب المشار إليها. ولعل من النافع الإشارة في هذه الخلاصة إلى أنّ غاية البحث هو الكشف للناس عن باب مدينة التأويل التي هي صورة لمدينة التنزيل محمد ص وبابها علي ع، ولقد وردت عن أمير المؤمنين علي ع إشارات كثيرة يبيّن فيها للناس أنّ القائم من ولده هو صورة منه، حيث ورد عن معاني الأخبار: ابن الوليد، عن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن صالح بن ميثم، عن عباية الأسدي، قال: (سمعت أمير المؤمنين ع وهو متكئ وأنا قائم عليه: لأبنين بمصر منبراً، ولأنقضن دمشق حجراً حجراً، ولأخرجن اليهود والنصارى من كل كور العرب، ولأسوقن العرب بعصاي هذه. قال: قلت له: يا أمير المؤمنين، كأنك تخبر أنك تحيى بعد ما تموت؟ فقال: هيهات يا عباية ذهبت في غير مذهب يفعله رجل مني) ([177])، ففي هذه الرواية في مقدمتها نسب الفعل له، ولكن لما سأل السائل جاءه الجواب: يفعله رجل مني، ومن يعود إلى الرواية الواردة عن أمير المؤمنين ع وحواره مع أبي الطفيل يتبين له قصد أمير المؤمنين ع. وفي الختام أسأل الله سبحانه أن يكون في هذه الكلمات القاصر صاحبها والمقصر بحق هذا النور الإلهي العظيم يماني آل محمد ع شيئاً من النفع للقارئ الذي لاشك في أنه - والباحث يشاركه الحال - يجهل قدر هذه الشخصية الإلهية التي لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وآل محمد ص، الذين اجتهدوا ص في وصفها وبيانها للناس، وبيان عظيم قدرها وجليل عطائها للبشرية، ولو لم يقال بحقها غير كلمات رسول الله ص: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي يواطئ اسمه اسمي يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً) ([178]) لكفاها رفعة وعزة وعظمه. فصلوات الله وسلامه عليك يا سيدي ومولاي ونور عيني يا باب التأويل يا يماني آل محمد ع، فبك أشرقت الأرض وانزاح عنها ظلام الجهل وظلم حاكمية الناس، وبك أشرقت شمس العلم وعدالة حاكمية الله، وبك جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين وسلم تسليماً. الخميس 16/ ربيع الأول/ 1433 هـ ق الموافق 9/ 2/ 2012 مFooters
[1] - الأعراف: 53.
[2] - تفسير البرهان - للسيد هاشم البحراني: مج3 ج8 ص179 ح4.
[3] - شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج1 ص337.
[4] - دعائم الإسلام - القاضي النعمان المغربي: ج1 ص388.
[5] - الكافي: ج8 ص246 ح342.
[6] - مستدرك الوسائل - الميرزا النوري: ج12 ص89.
[7] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج53 ص59 – 60.
[8] - كفاية الأثر - الخزاز القمي: ص121.
[9] - كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني: ص307 – 308.
[10] - الفتح: 28.
[11] - آل عمران: 7.
[12] - تفسير العياشي: ج1 ص187 ح8.
[13] - النساء: 59.
[14] - الأعراف: 53.
[15] - البرهان في تفسير القرآن - للسيد البحراني: مج3 ج8 ص179 ح4.
[16] - كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني: ص238.
[17] - يونس: 39.
[18] - تفسير العياشي: ج2 ص130 ح19.
[19] - العقل والجهل في الكتاب والسنة - لمحمد الريشهري: ص283.
[20] - الامامة والتبصرة - لابن بابويه القمي: ص115 – 116.
[21] - يوسف: 6.
[22] - يوسف: 21.
[23] - يوسف: 100.
[24] - يوسف: 36.
[25] - يوسف: 37.
[26] - يوسف: 44.
[27] - يوسف: 45.
[28] - يوسف: 100.
[29] - يوسف: 101.
[30] - الإسراء: 35.
[31] - الكهف: 78.
[32] - الكهف: 82.
[33] - مفردات ألفاظ القرآن الكريم - للراغب الأصفهاني: مادة (أول).
[34] - لسان العرب: مادة أول.
[35] - المصدر نفسه.
[36] - آل عمران: 7.
[37] - النساء: 162.
[38] - ينظر الكافي - الشيخ الكليني: ج8 ص388.
[39] - المحكمات في أحقية الوصي أحمد الحسن (: ص5 – 6.
[40] - رسائل الكركي - المحقق الكركي: ج3 ص162.
[41] - شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين - ابن ميثم البحراني: ص57.
[42] - فصلت: 53.
[43] - الرعد: 17.
[44] - الشعراء: 75 – 85.
[45] - الإخلاص: 1 – 2.
[46] - التوحيد - الشيخ الصدوق: ص137.
[47] - الأنعام: 125.
[48] - البقرة: 207.
[49] - الحجر: 28.
[50] - هود: 27.
[51] - طه: 10.
[52] - النساء: 28.
[53] - الشمس: 7 – 10.
[54] - التين: 4 – 5.
[55] - مريم: 71.
[56] - التحريم: 6.
[57] - المائدة: 3.
[58] - صحيح البخاري: ج4 ص31.
[59] - العنكبوت: 49.
[60] - الحجر: 9.
[61] - النحل: 43.
[62] - الكافي: ج1 ص249 ح6..
[63] - الكافي - الشيخ الكليني: ج1 ص242 – 247.
[64] - التوبة: 33.
[65] - الفتح: 28.
[66] - الصف: 9.
[67] - الغيبة - للنعماني: ص307.
[68] - الكافي - الشيخ الكليني: ج8 ص307 – 308.
[69] - مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي: ص40 – 41.
[70] - الكافي - الشيخ الكليني: ج2 ص116.
[71] - الغيبة - للنعماني: ص264..
[72] - الروم: 30.
[73] - الأعراف: 172.
[74] - يوحنا - الأاصحاح الأول: آية1.
[75] - النجم: 9.
[76] - الكافي: ج1 ص443، عنه بحار الأنوار: ج18 ص306، تفسير الصافي: ج5 ص87.
[77] - كتاب التوحيد - الإمام أحمد الحسن (: ص21 – 22.
[78] - الزخرف: 31.
[79] - الإسراء: 9.
[80] - الكافي - للشيخ الكليني: ج1 ص216.
[81] - الجمعة: 2 – 3.
[82] - الفتح: 28.
[83] - فصلت: 53.
[84] - كتاب التوحيد - الإمام أحمد الحسن (: ص13 – 15.
[85] - المصدر نفسه.
[86] - البقرة: 1.
[87] - إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب - للشيخ علي اليزدي الحائري: ج2 ص158.
[88] - بحار الأنوار - مكتبة أهل البيت الالكترونية - للعلامة المجلسي: ج51 ص35.
[89] - الرحمن: 29.
[90] - النساء: 83.
[91] - الأنبياء: 7.
[92] - العنكبوت: 49.
[93] - النساء: 65.
[94] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج35 ص403 – 404.
[95] - صحيح البخاري - الجزية - إخراج اليهود من جزيرة العرب: رقم الحديث 2932.
[96] - الراوي: عبد الله بن عباس - المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 114 - خلاصة حكم المحدث: [صحيح]، نقلاً عن الموسوعة الحديثية السنية الالكترونية المسماة: الدرر السنية
[97] - الحجرات: 2.
[98] - البقرة: 213.
[99] - الأنبياء: 24.
[100] - المتشابهات - الإمام أحمد الحسن (: ج1 سؤال رقم 8.
[101] - النجم: 39 – 40.
[102] - المتشابهات: ج1 سؤال رقم 8.
[103] - المتشابهات: ج3 المقدمة.
[104] - الأنبياء: 94.
[105] - آل عمران: 173.
[106] - قال (: (والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم) نهج البلاغة - 236.
[107] - هود: 112.
[108] - وسائل الشيعة - للحر العاملي: ج16 ص292.
[109] - التكاثر: 1 – 8.
[110] - نور البراهين - للسيد نعمة الله الجزائري: ج2 ص115.
[111] - المتشابهات: ج1 سؤال رقم 1.
[112] - رسائل الكركي - المحقق الكركي: ج3 ص162.
[113] - بحار الأنوار - للعلامة المجلسي: ج15 ص24.
[114] - بصائر الدرجات - للصفار: ص549.
[115] - كتاب الغيبة - لمحمد بن إبراهيم النعماني: ص264.
[116] - يونس: 35.
[117] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج27 ص204.
[118] - الأحقاف: 30.
[119] - الإسراء: 9.
[120] - النساء: 82.
[121] - الأحزاب: 21.
[122] - الأمالي - الشيخ الصدوق: ص655.
[123] - البقرة: 189.
[124] - الكافي - الشيخ الكليني: ج4 ص576.
[125] - بحار الأنوار: ج53 ص147، والغيبة للطوسي: ص150.
[126] - كمال الدين وتمام النعمة - للشيخ الصدوق: ص254.
[127] - بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار: ص41.
[128] - الرعد: 43.
[129] - الإسراء: 9.
[130] - مختصر بصائر الدرجات - للحسن بن سليمان الحلي: ص40.
[131] - الخصال - الشيخ الصدوق: ص652.
[132] - العنكبوت: 2.
[133] - النساء: 82.
[134] - بصائر الدرجات - لمحمد بن الحسن الصفار: ص26.
[135] - الكافي: ج1 ص193.
[136] - البقرة: 180.
[137] - الغيبة - للشيخ الطوسي: ص150 – 151.
[138] - الغيبة للنعماني: ص337.
[139] - بصائر الدرجات: ص470.
[140] - البقرة: 1 – 3.
[141] - كمال الدين وتمام النعمة - للشيخ الصدوق: ص286.
[142] - الأنعام: 103.
[143] - ينابيع المودة لذوي القربى - للقندوزي: ج3 ص398.
[144] - الغيبة للطوسي: ص151.
[145] - يوسف: 4 – 5.
[146] - البقرة: 1 – 3.
[147] - الرعد: 1.
[148] - الحجر: 89 – 96.
[149] - رابط البيان: http://www.almahdyoon.org/bayanat-sayed/238-al2israr
[150] - الجمعة: 2.
[151] - نهج البلاغة - خطب الإمام علي(: ج4 ص93.
[152] - الشمس: 7 – 10.
[153] - الأمالي - للشيخ الطوسي: ص232 – 233.
[154] - ينظر: لسان العرب: مادة تلا.
[155] - آل عمران: 31.
[156] - المتشابهات: ج1 سؤال رقم2.
[157] - الممتحنة: 4.
[158] - البقرة: 101.
[159] - المتشابهات: ج1 سؤال رقم23.
[160] - إبراهيم: 4.
[161] - علل الشرائع - الشيخ الصدوق: ج1 ص126.
[162] - الأنبياء: 107.
[163] - غافر: 1 – 2.
[164] - بحار الأنوار - للعلامة المجلسي: ج18 ص169- مكتبة أهل البيت الالكترونية.
[165] - آل عمران: 7.
[166] - كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني: ص307.
[167] - الزمر: 28.
[168] - النساء: 82.
[169] - مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب: ج3 ص525 – 526.
[170] - الجن: 1.
[171] - الزمر: 18.
[172] - ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي: ج3 ص208 – 209.
[173] - المائدة: 41.
[174] - الفتح: 28.
[175] - الأعراف: 53.
[176] - تفسير القمي: ج1 ص235.
[177] - بحار الأنوار - للعلامة المجلسي: ج53 ص59 – 60.
[178] - روضة الواعظين - للفتال النيسابوري: ص261.