Subjects

-تقديم بقلم الشيخ ناظم العقيلي ..

-الإهداء

-المقدمة ..

-شمولية العهد:

-أولاً: الارتباط بالله سبحانه

-ثانياً: السلوك

-ثالثاً: البِطانة

-رابعاً: العدل

-خامساً: الإيثار

-سادساً: الاحتجاب

-سابعاً: العيون (الاستخبارات)

-ثامناً: التسليم

-خاتمة


Text

إصدارات أنصار الإمام المهدي ع/ العدد (76) قبسات من العهد الخالد بقلم الشهيد السعيد الشيخ أنمار حمزة المهدي الطبعة الثانية 1433 هـ - 2012 م لمعرفة المزيد حول دعوة السيد أحمد الحسن ع يمكنكم الدخول إلى الموقع التالي : www.almahdyoon.org -تقديم بقلم الشيخ ناظم العقيلي .. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليماً. لقد حث ورغَّب السيد أحمد الحسن الأنصار على التمعن في العهد الخالد الذي كتبه أمير المؤمنين ع إلى مالك الأشتر عندما ولاه على مصر، وكذلك حث السيد أحمد الحسن على كتابة أبحاث حول هذا العهد العظيم لما يحويه من دستور إلهي للبشرية جمعاء، ولما يحويه من أخلاق وحكم ومواعظ خرجت من باب مدينة العلم علي بن أبي طالب ع، وكان من الذين استجابوا لذلك هو الشهيد السعيد الشيخ أنمار حمزة المهدي (رحمه الله تعالى). وهذا البحث على صغر حجمه يمثل نفحات رحمانية صدرت من ذلك القلب الطاهر، نعم قلب الشهيد السعيد أنمار المهدي (رحمه الله تعالى) الذي كان يتحلى بالأخلاق الكريمة والخشوع والوقار ومحاسن الأخلاق، التي كنت في الحقيقة أنا شخصياً أغبطه عليها، وكان شديد الاهتمام بالفقه وكان أستاذاً في مدرسة أنصار الإمام المهدي ع في الفقه. ولا ننسى موقفه البطولي الخالد يوم استشهاده، فقد نقل لنا بعض الأخوة أنه عندما أصيب برصاص الغدر والخيانة، وحضر عنده بعض الأنصار وأرادوا أن يحملوه فخاطبهم وهو يلفظ آخر أنفاسه قائلاً ما مضمونه: اتركوني ولا تتركوا أحمد الحسن، أوصيكم بأحمد الحسن فإنه حق فلا تقصروا في نصرته. ثم صاح ثلاث مرات: (الجنان .. الجنان .. الجنان) وانتقل إلى جوار ربه (، مضرجاً بدمه الزكي، وقد شابه موقفه هذا موقف مسلم بن عوسجة ع أحد أصحاب الإمام الحسين ع، حيث يروى عنه أنه أوصى بالإمام الحسين ع وهو في آخر رمق من حياته. جاء في بحار الأنوار: (...فسقط إلى الأرض وبه رمق، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين ع: رحمك الله يا مسلم ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾([1])، ثم دنا منه حبيب، فقال: يعز عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال له قولاً ضعيفاً: بشرك الله بخير، فقال له حبيب: لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمك، فقال مسلم: فإني أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين ع - فقاتل دونه حتى تموت، فقال حبيب: لأنعمنك عيناً، ثم مات رضوان الله عليه) ([2]). فسلام عليه وهنيئاً له الجنة ومجاورة محمد وآل محمد ص، وسلام على كل الشهداء السعداء الذين جسدوا النصرة حق تجسيد وهم يضحون تلك التضحية العظيمة غير مبالين بكثرة عدد وعدة جيوش بني العباس المنافقين. فالحمد لله على بلاءه وعظيم نعماءه، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر على فراقهم، وأن يرزقنا شفاعتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن يلحقنا بركبهم على حق اليقين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين. الشيخ ناظم العقيلي 9/ رمضان الخير والبركة/ 1429 هـ . ق -الإهداء إلى من بذلوا المداد والدماء في طريق إقامة حكمه تعالى .. إلى الذين سلموا لأمرهِ في أوليائه وما بدلوا تبديلاً .. إلى مالك الأشتر .. إلى عمار .. إلى سلمان .. إليك يا مقداد .. إليك يا مقداد .. إليك يا مقداد أهدي ثواب هذه الكلمات سائلاً إياهُ سبحانه كمال عفوه وقبوله ونوره ورضاه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الائمة والمهديين وسلم تسليماً -المقدمة .. كثيرٌ هم الذين كتبوا لعمّالهم، وأكثر منهم من بعثوا رسائلهم إلى من تحت إمرتهم .. ولكن .. هل كل الرسائل والعهود متساوية أو فيها شيء من التساوي، أو قل الكفاءة ؟ كلا أكيداً. فأين عهود ورسائل الطواغيت الغاصبين لحاكميتهِ سبحانه من عهود ورسائل المنصبين المخصوصين بالعلم والوصية ؟ أين عهود الجهلاء متخبطي العشواء من عهود الأصفياء ؟ أين عهود معاوية (لعنه الله) من عهودك يا علي الأزمان ؟ أين عهود حكام اليوم وفقهائهم من عهودك يا علي يا وصي هذا الزمان ؟ أين الثرى من الثريا .. بل أين الظلمة من النور ؟ * * * -شمولية العهد: إنّ ما يُميّز العهد الذي بعثه أمير المؤمنين ع لمالك (رضي الله عنه) عدة أمور وخصائص تُعطيه من الأهلية أن يكون بحد ذاته دستوراً شاملاً لكل حاكم في كيفية إدارة بلاده وكيفية التعامل مع الرعية. ولكني في هذا البحث البسيط المتواضع سأقتصر على توضيح بعض المفاهيم التي ذكرها سيدي ومولاي أمير المؤمنين ع لعامله مالك (رضي الله عنه)، ولا أقصد بتوضيح المفاهيم تبيان مداليلها اللغوية أو الاصطلاحية، بل وإنما كيفية فهم المفهوم المشار إليه بالنسبة لموقع الحاكمية وكيفية جعل هذا المفهوم في تسيير أٌمور الرعية. فمثلاً مفهوم الارتباط بالله بالنسبة إلى الحاكم يختلف عما في غيره، فالحاكم يجب أن يكون ارتباطه بالله أعظم وأوكد، وذلك لما يلاقيه الحاكم من زخارف الدنيا وفتن وإبتلاءات في موقعه، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فإنّ الواجبات الملقاة على عاتقه أكثر بكثير من غيره، فلابد أن يختلف التكليف وذلك لاختلاف الموقع، ولا أعني بالتكليف التكليف الجمعي وإنما بعض التكاليف. ومحل الشاهد إنّ الإمام ع يأمر عامله (رضي الله عنه) بأن يكون ارتباطه بالله سبحانه أعظم وأوكد مما كان قبل تولّي دفة الحكم، ويعطيه (سلام الله عليه) ويفهمه فائدة الارتباط به سبحانه، ولماذا الارتباط وكيف يُقيمه نيةً وسلوكاً باطنياً وعملاً ظاهرياً وأنه (رضي الله عنه) لا يستطيع أن يُسّير أمور رعيته من دون أن يستشعر هذا المفهوم بكل حيثياته في باطنه وتصرفاته. * * * -أولاً: الارتباط بالله سبحانه كل من تتبع هذا العهد المبارك ولو بتركيز بسيط يجد أن أمير المؤمنين ع أكد كثيراً على أن تكون العلاقة بين مالك (رضي الله عنه) وبين ربه عميقة، ففي بداية عهده أمره بتقوى الله وإيثار طاعته وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنته، وفي موضع آخر تقرؤه يقول ع: (واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ ...). ولو سألنا أنفسنا لماذا هذا التأكيد من أمير المؤمنين ع، فسيأتينا الجواب لابد منه، وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يعطي العدل للرعية من لم يكن عادلاً ؟! وكيف يكون عادلاً والعدل من صفات الله من لم يتحلَّ بصفة الله ؟! وكيف يتحلى بصفة الله من ليس عنده أو لديه ارتباط بالله ؟! وكذا بقية الصفات، فتأمل. * * * -ثانياً: السلوك والسلوك سلوكان: سلوك مع الخالق، وسلوك مع المخلوق. فأما السلوك مع الخالق فقد أشرت إليه في مفهوم الارتباط بالله، وأما السلوك مع الخلق فعليك أن تفهم هذه الكلمات التي كتبت لمالك (رضي الله عنه) تأمره من سيده سيد الأنام والكون والكلام علي الأمير الهمام عليه آلاف التحية والسلام بالسلوك الحسن مع عيال الله وحتمية التعامل مع الرعية، وما أحوج حكام هذا الزمان لهذه الكلمات: (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، وألطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ...). وفي موضع آخر: (... ولا يشغلك عنهم بطر فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لأولئك نفسك ...). ومن يرجع إلى العهد ويقرأه بتمعن سيجد الكثير من الكلمات التي تحدد سلوك الحاكم مع رعيته، وسبحان الله والحمد لله إن سيدي ومولاي أمير المؤمنين من لطفه لا يكتفي أن يحدد السلوك وإنما يبين مغزى هذا السلوك أو ذاك وما يوجب للحاكم من عز الدنيا وسعادة في الآخرة. والمتأمل بهذه الجملة المباركة: (اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل وجور)، إنما يستشف عدة معانٍ معرفية وسلوكية على المستويين الحكم والحكمة، فقول الأمير ع: (جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور) تنبيه على أن لا بقاء لا لدولة العدل ولا لدولة الجور بالبقاء المادي، وإلا لما وصل الأمر إليك يا مالك، وإنما كان البقاء الأثري والمعنوي أو قل الروحي في نفوس الناس وعند الله سبحانه وتعالى، فالعادل والحاكم العادل قد سما وارتقى وتخَلدَ اسمه في الدنيا والآخرة، والظالم والحاكم الظالم أصبح لعنة في أفواه الأجيال جيلاً بعد جيل، فاعتبر يا مالك سواء كنت حاكماً أو لم تكن (والسعيد من اتعظ بغيره) ([3]). * * * -ثالثاً: البِطانة ورد عن النبي ص بما معناه: (من أراد الله به خيراً جعل له بطانة خير، ومن أراد الله به شراً جعل له بطانة سوء). فالبطانة: (أي حاشية الحاكم أو قل رجاله المقربون)، لهم الدور الكبير في تسيير قرارات الحاكم، وبالتالي لهم المدخلية الكبيرة في تسيير أمور البلاد، وهذا واضح أكيداً لي ولك؛ لأن البطانة هم الناقلون لما يجري من الأحداث بصورة خاصة للحاكم من جهة، ومن جهة أُخرى هم مستشاروه، ومن جهة ثالثة هم من ينقل عنه و.... فإذا لم ينتقِ الحاكم بطانته جيداً فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه سيُعرض نفسه ورعيته إلى الهلاك اللاشعوري على الصعيدين الدنيوي والأخروي، فلذا نجد أن أمير المؤمنين ع أكد تأكيداً بالغاً في أكثر من موضع من عهده لمالك ع على مفهوم البطانة، وكيفية اختيار رجالها وتوضيح ما لهم من الدور الفعال إذا كانوا صالحين، والعكس بالعكس إذا كانوا أصحاب قلوب مريضة أو منافقين. وكذلك نجد أنّ أمير المؤمنين ع يُحذر مالك من أن يعطي خاصته ما لا يعطي للعامة أو أن يفضلهم عليهم بل بالعكس، ونظرة بسيطة لهذه الكلمات تكفي: (فإن سخط العامة يُجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره بالإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عن ملمات الدهر من أهل الخاصة). ونجده ع ينهى مالك (رضي الله عنه) عن الاختيار بفراسته، وإنما عليه اختبارهم والنظر إلى الصفات والمؤهلات التي يجب أن ينظر إليها فيمن يختاره، فيكتب له ع: (ثم لا يكون اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا الصالحين من قبلك، فأعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً...). وفي موضع آخر يقول ع: (ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في قرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، والزم من الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً ...). وفي موضع آخر من العهد المبارك يُحذر أمير المؤمنين ع مالكاً (رضي الله عنه) من أن يجعل له وزيراً كان سابقاً وزيراً للأشرار، ويبين ذلك فيكتب له: (... إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومَن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة ...). ومن كرم ولطف أمير المؤمنين والهدى سيد الورى آية الله العظمى([4]) علي بن أبي طالب ع أنه لا يأمر بشيء أو يعطي مفهوماً يوجبه على الولاة إلا وفهمهم فائدته ومساوئ تركه، وهذا واضح للمتتبع الفطن. * * * -رابعاً: العدل العدل ([5]): صفة من صفات الله تبارك وتعالى، والعادل اسم من أسماء ذاته المقدسة، وصفة العدل أو العدالة مشتقة من اسم العادل، فمهما حاول الإنسان تطبيق العدالة فلا يستطيع اللهم إلا بدرجة نسبيه، وذلك لما اٌلهم الإنسان من المعرفة الفطرية في ذلك. أما العدالة الحقيقية أو المطلقة فلا يمكن إطلاقاً أن يطبقها الإنسان إلا أذا تحلى باسم الله العادل، فعندها سيكون عادلاً حقيقياً في ذاته (ذات الإنسان) وخارجها، ولذلك نجد أن أمير المعرفة وقصائدها ومُنزلها ومحطها مثل الله في خلقه أمر مالك (رضي الله عنه) في عهده إليه بالتقوى، وإذا أصبح الإنسان متقياً فقد حصلت لديه العدالة، أو قل فقد حاز العدالة وتحلى باسم الله العادل، فالمتقي عنده العدل وزيادة. وأما كلماته ع بخصوص العدل في عهده فارتأيت أن أنقل هذه الكلمات: (وليس شيء ادعى إلى تغير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد، ولكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية ...). (ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة). (ثم اعرف لكل امرئ ما أبلى ولا تضمن بلاء (عمل) امرئ إلى غيره، ولا تقصدن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف إمرئٍ إلى أن تعظم من بلائه (عمله) ما كان صغيراً ولا ضعة امرئٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً). فبالعدل تقام السنن والأحكام، والعدل أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في الحاكم وغيره، وبما أن دائرة البحث اقتصرت على أخلاقيات الحكم والحاكم فيتعين عليّ أن لا أزيد لكي لا أخرج عن المفيد ... وإني أسأل القارئ الرشيد أن ينظر بعين الإنصاف والتسديد لما موجود في عالمنا الأرضي، وبالعراق بالتحديد، فهل يرى من الحكام وبطانتهم ومستشاريهم وما يسمى بمجلس النواب ما أراد أمير التوحيد ؟ كلا ثم كلا، فوا لله الذي فلق الحبة وبرء النسمة لا ولا شيء من العدل، وأنى لهم ذلك وقد خالفوا القرآن (الدستور الإلهي العادل الشامل الكامل) واختاروا غيره بدلاً وراموا عنه حولاً، وخالفوا وصية رسول الله محمد ص التي عين فيها خلفاءه وحكام الأرض من بعده، وتعاموا وصموا الأسماع عن حديثه الذي حذر به الأمة من الشورتين الكبرى و(الصغرى) التي تحدث قبل قيام الإمام المهدي ع ([6])، فبئس ما فعلوا ويفعلون هم وفقهاء الضلالة الخونة الذين أقروا لهم مشروعية أعمالهم الذين وصفهم رسول الله ص أنهم شرار خلق الله منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود ([7])، فهذه هي النتيجة، الظلم والفساد .. القتل والتشريد .. فهل من مزيد ؟؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ أم ينته الأمر إلى هذا الحد، يا رب الوعد والوعيد!! نسألك ربنا أن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن تجعلنا ممن تقيم بهم دولتك وحكمك وترشدنا وتلهمنا الهداية والتأييد، إنك حنان فعال لما تريد.‍‍ * * * -خامساً: الإيثار لا يكتفي سلام الله عليه بأن يأمر عمّاله وولاة بلاده بالعدل في الرعية، لا بل يأمرهم بالإيثار أيضاً على الصعيدين المعنوي والمادي، ومن جميل تعاليمه أمره في ذلك لا بالمباشرة وإنما من خلال الدعاء، فيعلم صلوات ربي عليه أصحابه وعماله ويأمرهم بالإيثار وذلك من خلال تقديم الرعية على نفسه حتى في دعائه، فهو ع لم يطلب من الله السعادة والشهادة إلا بعد أن طلب التوفيق لخدمة خلق الله سبحانه والأثر الجميل في بلاده. قال ع: (... أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه من حسن الثناء في العبادة ([8]) وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة). * * * -سادساً: الاحتجاب من المؤسف على مرِّ التأريخ البشري أنّ الولاة دائماً محجوبون عن الرعية ويكون تماسهم المباشر دائماً مع بطانتهم، ولهذا الأمر أو الفعل آثاره السلبية العظيمة، فلذا نجد أنّ أمير المؤمنين علم يفتهُ هذا الأمر وكيف يفوته ؟؟!! وهو الكتاب المبين الذي فيه التبيان والتفصيل، فكتب لعامله ناهياً إياه عن الإحتجاب ومبيناً له آثاره الوخيمة: (... وأما بعد، فلا تطولن إحتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويَعظم عندهم الصغير، ويقبُحُ الحسن، ويحسُنُ القبيح، ويُشان الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ...). * * * -سابعاً: العيون (الاستخبارات) كذلك أمر الإمام ع عامله الهمام (رضي الله عنه) بتشكيل جهاز لجلب المعلومات ومتابعة أحوال عمّال البلاد ومن يجعلهم مسؤولين عن العباد. وهذا المفهوم الآن متواجد في جميع البلدان، وهو ما يسمى اليوم بجهاز (الاستخبارات).. ولكن أين الاستخبارات التي يُريدها أمير العرفان من استخبارات الظلمة الجرذان.. أما الآن فقد حان الاستماع إلى ضالة المؤمن: (... ثم تفقد أعمالهم (أي العمال في الدولة)، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمور الرعية حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية ...). فأمير المؤمنين ع يأمر بجعل العيون على المسؤولين في الدولة لا على الرعية المساكين، فلذا فليلتفت حكام الدول الغاصبين لحاكميته سبحانه (ولكن أنى لهم الالتفات)، فلا هم أعطوا أولياء الله حقهم المشروع ولا هم التفتوا إلى تعاليمهم لعلهم يحظون بحب الشعب على الأقل بعد أن خسروا الآخرة. -ثامناً: التسليم التسليم نقيض الاجتهاد بالرأي، ولطالما حذر الرسول الأكرم ص أهل بيته ص من الاجتهاد بالرأي، وإنما يجب على الفقيه أو الوالي الذي لابد أن يكون فقيهاً من التسليم لحكم الله سبحانه في كتابه وسنة نبيه وآله الأطهار (صلوات ربي وسلامه عليهم). والاجتهاد بالكتاب والروايات لتحصيل المعرفة لا الاجتهاد مقابل الكتاب والرواية، كذلك إستخدام العقل في فهم الحكم من الكتاب والسنة (قول المعصوم وفعله وإقراره)، لا أن يجعل العقل البشري الناقص من مصادر التشريع بنظير أو أزاء الكتاب والسنة الطاهرة المطهرة. كلا ثم كلا، فقد نهى الله سبحانه ورسوله ص والأئمة ص عن ذلك أشد النهي، ويوجد لدينا عشرات الروايات في كتب الشيعة المعتبرة (كالكافي وبحار الأنوار ووسائل الشيعة) وغيرها من كتب الحديث التي تنهى عن ذلك. وأنقل إليك أيها القارئ الكريم هذه الرواية وأحيلك إلى كتاب (الإفحام لمكذب رسول الإمام) أحد إصدارات أنصار الإمام المهدي (مكن الله له في أرضه)، وقد ناقش فيه المؤلف جزاه الله خيراً مسألة الاجتهاد، ونقل الكثير من الروايات المعتبرة والصحيحة السند، فإذا أردت أن تستفيد فأقرأ بتمعن هذا الكتاب هداك الله لما يريد وسهل لك طريق السداد وأعطاك في قولك وفعلك التسديد. عن أبي بصير، أنه قال للإمام الصادق ع: (ترد علينا الأشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنته ص فننظر فيها ؟ فقال ع: لا، أما أنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله) ([9]). وهنا في هذا العهد المبارك يؤكد أمير المؤمنين ع لعامله (رضي الله عنه) على مسألة التسليم وعدم الاجتهاد بالرأي والرجوع إلى حكم الله سبحانه الموجود في كتابه ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾([10]) وسنة نبيه ص، وكذلك يبين حقيقة مهمة يتغافل عنها القوم بسبب جهلهم وعدم طهارتهم ليَمسوا معاني القرآن ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾([11])، وهي أن المعضل والمشتبه من الأمور موجود حكمه في كتابه تبارك وتعالى، فكيف بما هو أقل من ذلك ؟ فانتبه جزاك الله خيراً. كتب ع: (واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الأمور، فقد قال تعالى لقوم أحب إرشادهم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾([12])، فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة ..). وأود أن أشير إلى أن ما تعارف عند الناس من أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران، إنما هو مأخوذ من رواية موضوعة موجودة في كتب أبناء العامة تنسب إلى الرسول ص عن طريق أبي هريرة، ورواية ثانية عن طريق مولى عمرو بن العاص !!! فاتعظ أيها القارئ وتأمل كم أن المجتمع في تيهان وغفلة عن أبسط الحقائق، وكم أن العلماء قد جعلوا هذا المكلف المسكين في غفلة وتيهان .. فاسأل نفسك لماذا ؟؟! * * * -خاتمة الحقيقة إني أعجز عن إعطاء كل المفاهيم الموجودة في هذا العهد المبارك، لأمرين: الأول: لكثرتها. والثاني: لوجود مفاهيم بدناءتي وقلة معرفتي فإني لا ألتفت إليها، وأين أنا وأيننا وأينك أيها القارئ الحبيب من عهدٍ كتبه الأمير العارف اللبيب إلى عامله الفطن الرحيب. ولكن على أي حال، فإننا نستطيع أن نقتبس منه ولو شيئاً يسيراً ينفعنا في سيرنا إلى الله سبحانه وينفعنا للمقارنة بين دولة الحق ومفاهيمها ودولة الباطل (إن صح تسميتها دولة) ومفاهيمها الشيطانية (الديمقراطية)، وإني أنصح نفسي أولاً وأنصحك أيها القارئ بمراجعة هذا العهد الموجود في نهج البلاغة أكثر من مرة، وفي كل مرة سنلتفت إلى أمر ومفهوم جديد. وأحب أن أبيِّن هنا بعض الحقائق التي أوضحها أمير المؤمنين ع وهذا من مننه ع على الولاة والرعية أنه لا يخطب بقوم أو يبعث إليهم بكتاب إلا وأوضح فيه الحقائق وأعطى فيه تبيان اللُباب. منها ما كتبه ع: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض ...). ومنها: (والحق كله ثقيل وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبَّروا أنفسهم ووثقوا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم ...). نعم، يا أمير المؤمنين عليك أفضل الصلوات والتسليم، الحق كله ثقيل وكيف لا يكون ثقيلاً على من اتبع هواه أو رأيه أو مصالحه، وإنما يخففه الله للذين يطلبون العاقبة وحسنها بصفاء قلوبهم وبحثهم الدؤوب عن الحقيقة، مرتبطين بالله ومتخذين المعصوم لهم وسيلة لا غيره عارجين إلى الله بانقطاعهم إليه وسؤاله الحق، وأن يجعلهم من خدامه وأنصاره مهما كلفهم ذلك من تضحيات وقتل شخصياتهم في المجتمع بالاستهزاء والتصغير والبهتان، فعند ذلك سيجدون الله، ومن وجد الله فلن يفقد شيئاً، وسيحصل لديهم شهود الحقائق كما هي (إلهي ماذا وجد من فقدك، ماذا فقد من وجدك) ([13]). أما من تكبر واستكبر ففيه يكفي قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾([14]). كذلك من الحقائق التي بينها ع: (وإن الناس ينظرون من أمورك مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك). سبحان الله، حقيقة بسيطة ومعروفة ولكن ما أخفاها عن من يتسلم منصب الولاية من دون تنصيب الله سبحانه، فنراه قبل أن يتزعم يقول ويقول ويوعد ويعهد إن استلمت هذا المنصب لا أظلم أحداً وأفعل من العدل والإحسان كذا وكذا، وما إن يتسلم المنصب وإذا به نسي ما قطع من عهود لمن عاهد من قبل أو تناسى ذلك، فلذا فليعلم الجميع أن من السهل أن ينجح المرء في بلاء الدنيا وصعوبة العيش، ولكن من الصعب أن ينجح في بلاء المناصب، ولذا ورد عن أمير المؤمنين ع قوله بما معناه: (اختبروهم بالمناصب). اللهم بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها سيرنا ولا تخيرنا ولا تمتحنا، واجعلنا كما تريد، وأين ما تريد، إنك الجواد الواسع، وأنت على كل شيء قدير وشهيد. ومنها: (فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم تبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها .. فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يوهنه ويضعفه بل يزيله وينقله ...). ومنها: (فإن المَن يُبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخُلف يوجب المقت عند الله والناس، قال تعالى: كبر مقتاً أن تقولوا ما لا تفعلون). اللهم نعوذ بك وبنور وجهك وبنبيك نبي الرحمة ووصيه وزوجه وبنيه ونسله من الأئمة والمهديين والعباد الصالحين صلواتك عليهم أجمعين من أن نقول ما لا نفعل، ونعوذ بك مما استعاذ منه عبادك الصالحون، ونسألك أن تلحقنا بركب مولانا صاحب الزمان ووصيه ورسوله ويمانيه الولهان أحمد الحسن أول المهديين وأول المؤمنين المخصوص بالعلم والوصية. والحمد لله على بلائه، وعظيم نعمائه، والصلاة والسلام على محمد وآله العُلام. الجمعة 22/ ذي الحجة/ 1427 12/ 1/ 2007 م أنمار حمزة المهدي
Footers

[1] - الأحزاب: 23.

[2] - بحار الأنوار: ج45 ص20.

[3] - شرح أصول الكافي - للمازندراني: ج12 ص161.

[4] - هذا اللقب خاص بالإمام علي ( ولا يجوز لأحد أن يتلقب به، راجع المتشابهات: ج3 سؤال رقم (121).

[5] - أعطيت مثل العدل في مفهوم الارتباط بالله وهنا جعلت العدل مفهوماً مستقلاً مع شيء من التفصيل، فأرجو الانتباه.

[6] - عن رسول الله  أنه قال: (الويل الويل لأمتي في الشورى الكبرى والصغرى، فسئل عنهما فقال : أما الكبرى فتنعقد في بلدتي بعد وفاتي لغصب خلافة أخي وغصب حق ابنتي، وأما الشورى الصغرى فتنعقد في الغيبة الكبرى في الزوراء لتغيير سنتي وتبديل أحكامي) مائتان وخمسون علامة: ص130.

[7] - عن رسول الله  أنه قال: (سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود) الكافي: ج8 ص479.

[8] - ومن أجلّ وأعظم مصاديق العبادة التي عناها أمير المؤمنين خدمة عيال الله، فالخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرأفهم بعياله.

[9] - وسائل الشيعة (آل البيت): ج27 ص40.

[10] - الأنعام: 38.

[11] - الواقعة: 79.

[12] - النساء: 59.

[13] - من دعاء للإمام الحسين ( أوضح فيه هذا المعنى.

[14] - الأعراف: 146.